الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى )

قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) بفتح " الألف " من " أن " ونصب " تضل " و " تذكر " بمعنى فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت . وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير . لأن " التذكير " عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان " تضل " . لأن المعنى ما وصفنا في قولهم . وقالوا : إنما نصبنا " تذكر " لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه [ ص: 63 ] مردودا عليه ، كما تقول في الكلام : " إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى " بمعنى إنه ليعجبني أن يعطى السائل إن سأل - أو : إذا سأل . فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة . ولكن قوله : " أن يسأل " لما تقدم اتصل بما قبله وهو قوله : " ليعجبني " ففتح " أن " ونصب بها ، ثم أتبع ذلك قوله : " يعطى " فنصبه بنصب قوله : " ليعجبني أن يسأل " نسقا عليه ، وإن كان في معنى الجزاء .

وقرأ ذلك آخرون كذلك ، غير أنهم كانوا يقرءونه بتسكين " الذال " من ( تذكر ) وتخفيف كافها . وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك .

وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه : فتصير إحداهما الأخرى ذكرا باجتماعهما ، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها ، جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدين ، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد ، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور ، فكأن كل واحدة منهما - في قول متأولي ذلك بهذا المعنى - صيرت صاحبتها معها ذكرا . وذهب إلى قول العرب : " لقد أذكرت بفلان أمه " أي ولدته ذكرا " فهي تذكر به " " وهي امرأة مذكر " إذا كانت تلد الذكور من الأولاد . وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينة أنه كان يقوله . [ ص: 64 ]

6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال : حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس تأويل قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " من الذكر بعد النسيان ، إنما هو من الذكر ، بمعنى أنها إذا شهدت مع الأخرى صارت شهادتهما كشهادة الذكر .

وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى " الذكر " بعد النسيان .

وقرأ ذلك آخرون : ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) " بكسر " إن " من قوله : " إن تضل " ورفع " تذكر " وتشديده ، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها ذكرتها الأخرى من تثبيت الذاكرة الناسية وتذكيرها ذلك وانقطاع ذلك عما قبله . ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فإن إحداهما إن ضلت ذكرتها الأخرى على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية .

وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذها عنه . وإنما نصب الأعمش " تضل " لأنها في محل جزم بحرف الجزاء ، وهو " إن " . وتأويل الكلام على [ ص: 65 ] قراءته " إن تضلل " فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى حركها إلى أخف الحركات ، ورفع " تذكر " بالفاء ؛ لأنه جواب الجزاء .

قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك قراءة من قرأه بفتح " أن " من قوله : " أن تضل إحداهما " وبتشديد الكاف من قوله : " فتذكر إحداهما الأخرى " . ونصب الراء منه بمعنى : فإن لم يكونا رجلين ، فليشهد رجل وامرأتان ، كي إن ضلت إحداهما ذكرتها الأخرى .

وأما نصب " فتذكر " فبالعطف على " تضل " وفتحت " أن " بحلولها محل " كي " وهي في موضع جزاء ، والجواب بعده ، اكتفاء بفتحها أعني بفتح " أن " من " كي " ونسق الثاني - أعني : " فتذكر " - على " تضل " ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر ، قد دل عليه وأدى عن معناه وعمله - أي عن " كي " .

وإنما اخترنا ذلك في القراءة ، لإجماع الحجة من قدماء القرأة والمتأخرين على ذلك ، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءته في ذلك بما انفرد به عنهم . ولا يجوز ترك قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بينهم إلى غيرها . وأما اختيارنا " فتذكر " بتشديد الكاف ، فإنه بمعنى ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى ، وتعريفها بأنها [ نسيت ] ذلك ، لتذكر . فالتشديد به أولى من التخفيف . [ ص: 66 ]

وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه ، فتأويل خطأ لا معنى له ، لوجوه شتى :

أحدها : أنه خلاف لقول جميع أهل التأويل .

والثاني : أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها ، إنما هو ذهابها عنها ونسيانها إياها ، كضلال الرجل في دينه إذا تحير فيه فعدل عن الحق . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة ، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرا معها ، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها ؟ وللضالة منهما في شهادتها حينئذ لا شك أنها إلى التذكير أحوج منها إلى الإذكار ، إلا إن أراد أن الذاكرة إذا ضعفت صاحبتها عن ذكر شهادتها شحذتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته ، فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك ، كما يقال للشيء القوي في عمله : " ذكر " وكما يقال للسيف الماضي في ضربه : " سيف ذكر " و " رجل ذكر " يراد به : ماض في عمله ، قوي البطش ، صحيح العزم .

فإن كان ابن عيينة هذا أراد ، فهو مذهب من مذاهب تأويل ذلك ، [ ص: 67 ] إلا أنه إذا تئول ذلك كذلك ، صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه ، وإن خالفت القراءة بذلك المعنى القراءة التي اخترناها . ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله : " فتذكر " . ولا نعلم أحدا تأول ذلك كذلك ، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى . فالصواب في قراءته - إذ كان الأمر عاما على ما وصفنا - ما اخترنا .

ذكر من تأول قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " نحو تأويلنا الذي قلنا فيه :

6362 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " علم الله أن ستكون حقوق ، فأخذ لبعضهم من بعض الثقة ، فخذوا بثقة الله ، فإنه أطوع لربكم ، وأدرك لأموالكم . ولعمري لئن كان تقيا لا يزيده الكتاب إلا خيرا ، وإن كان فاجرا فبالحري أن يؤدي إذا علم أن عليه شهودا .

6363 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " يقول : أن تنسى إحداهما فتذكرها الأخرى .

6364 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، [ ص: 68 ] عن السدي : " أن تضل إحداهما " يقول : تنسى إحداهما الشهادة ، فتذكرها الأخرى .

6365 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير عن جويبر عن الضحاك : " أن تضل إحداهما " يقول : إن تنس إحداهما تذكرها الأخرى .

6366 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى " قال : كلاهما لغة ، وهما سواء ، ونحن نقرأ : " فتذكر " .

التالي السابق


الخدمات العلمية