الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          830 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          فإذا قدم المعتمر ، أو المعتمرة مكة فليدخلا المسجد ولا يبدآ بشيء لا ركعتين ولا غير ذلك قبل القصد إلى الحجر الأسود فيقبلانه ، ثم يلقيان البيت على اليسار ولا بد ، ثم يطوفان بالبيت من الحجر الأسود إلى أن يرجعا إليه سبع مرات ، منها ثلاث مرات خببا وهو مشي فيه سرعة ، والأربع طوافات البواقي مشيا ، ومن شاء أن يخب في الثلاث الطوافات ، وهي الأشواط من الركن الأسود مارا على الحجر إلى الركن اليماني ، ثم يمشي رفقا من اليماني إلى الأسود في كل شوط من الثلاثة فذلك له وكلما مرا على الحجر الأسود قبلاه ، وكذلك الركن اليماني أيضا فقط ، فإذا تم الطواف المذكور أتيا إلى مقام إبراهيم عليه السلام فصليا هنالك ركعتين وليستا فرضا .

                                                                                                                                                                                          ثم خرجا ولا بد إلى الصفا فصعدا عليه ، ثم هبطا فإذا صارا في بطن الوادي أسرع الرجل المشي حتى يخرج عنه ثم يمشي حتى يأتي المروة فيصعد عليها ثم ينحدر كذلك حتى يرجع إلى الصفا ثم يرجع كذلك إلى المروة هكذا حتى يتم سبع مرات : منها ثلاث خببا وأربع مشيا ، وليس الخبب بينهما فرضا .

                                                                                                                                                                                          ثم يحلق الرجل رأسه ، أو يقصر من شعره - ولا تحلق المرأة لكن تقصر من [ ص: 84 ] شعرها ، وقد تمت العمرة وحل لهما كل ما كان حرم عليهما بالإحرام من لباس وغيره .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا خلاف فيما ذكرنا إلا في أشياء نبينها إن شاء الله عز وجل ، وهي : وجوب الخبب في الطواف ، وجواز تنكيس الطواف بأن يلقى البيت على اليمين ، ووجوب السعي بين الصفا والمروة - : برهان صحة قولنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن سليمان لوين عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال { لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المشركون إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله - عز وجل نبيه - عليه السلام على ذلك فأمر أصحابه أن يرملوا وأن يمشوا ما بين الركنين } فهذا أمر واجب - : وبه إلى أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن سعيد بن قدامة نا يحيى هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله هو ابن عمر - عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يرمل الثلاث ويمشي الأربع ويزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك - فهذا بيان الرمل إنما هو في الثلاثة الأشواط الأول ، وأن الرمل في جميع تلك الأشواط جائز .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : إن ابن عباس قال في الرمل : ليس سنة ، وهو راوي الحديث ؟ قلنا : لا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسألكم ما قولكم ، وقول أهل الإسلام فيهم لو أنهم إذ أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يرملوا ؟ يقولون له : لا نفعل - وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك - أعصاة كانوا يكونون أم مطيعين ؟ وأما وجوبه - : فقد روينا من طريق ابن عمر ، وعطاء ، وسليمان بن يسار ، ومكحول ، ليس على النساء رمل من طرق لو شئنا لتكلمنا في أكثرها لضعفها .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن ابن عباس ، وعطاء ، ليس على من ترك الرمل شيء - وعن إبراهيم عليه فدية .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا الثقفي هو عبد الوهاب بن عبد المجيد - عن حبيب هو ابن أبي ثابت - عن عطاء : أنه سأل عن المجاور إذا أهل من مكة هل يسعى الأشواط الثلاثة ؟ قال : إنهم يسعون قال : فأما ابن عباس فإنه قال : إنما ذلك على أهل الآفاق . [ ص: 85 ] ومن طريق عبد الرزاق عن زكريا بن إسحاق عن إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد قال : خرج ابن الزبير ، وابن عمر فاعتمرا من الجعرانة لما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة قال مجاهد : وكنت جالسا عند زمزم فلما دخل ابن الزبير ناداه ابن عمر أرمل الثلاث الأول ؟ فرمل ابن الزبير السبع كله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي أسامة عن هشام عن الحسن ، وعطاء قالا : ليس على أهل مكة رمل ، ولا على من أهل منها إلا أن يجيء أحد من أهل مكة من خارج .

                                                                                                                                                                                          فهذه رواية عن ابن عباس بإيجاب الرمل على أهل الآفاق .

                                                                                                                                                                                          وعن الحسن ، وعطاء مثل ذلك - وعن ابن عمر بإيجابه ذلك عن ابن الزبير وهو ساكن بمكة ، وأقل هذا أن يكون اختلافا من قولي ابن عباس وعطاء ، وقد ذكرنا ما تركوا فيه الجمهور وما انفردوا به بغير سنة لكن برأي ; وهم يعظمون ذلك ، ونحن لا ننكره إذا اتبعت السنة في خلافه .

                                                                                                                                                                                          وأما تقبيل الركنين فسنة وليس فرضا ، لأنه لم يأت بذلك أمر ، وإنما هو عمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، وقد طاف عليه السلام راكبا يشير بمحجن في يده إلى الركن .

                                                                                                                                                                                          وأما تنكيس الطواف فإن أبا حنيفة أجاز تنكيس الوضوء ، وتنكيس الأذان ، وتنكيس الإقامة ، وتنكيس الطواف .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : إذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبب في الأشواط المذكورة فقد علمهم من أين يبتدئون ؟ وكيف يمشون فصار ذلك أمرا ، وأمره عليه السلام فرض ، ولا أعجب ممن لا يرى العمرة ، أو الحج يبطلان بمخالفة ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم يراهما يبطلان بما لم يأت فيه أمر بذلك من الله تعالى ، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم كتعمد الإمناء في مباشرة امرأته بغير جماع ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما الطواف بين الصفا والمروة في العمرة فإن أنسا وغيره قالوا : ليس فرضا - : روينا من طريق عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ : " فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما . [ ص: 86 ] قال أبو محمد : هذا قول من ابن عباس لا إدخال منه في القرآن - وعن ابن عباس أيضا : العمرة الطواف بالبيت .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت أنس بن مالك يقرأ فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد بن حميد عن الضحاك بن مخلد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن مسعود مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد المقري عن أبي حنيفة عن ميمون بن مهران عن أبي بن كعب مثل ذلك ، وهو قول عطاء ، ومجاهد ، وميمون بن مهران . ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء عن ابن الزبير قال في الطواف بين الصفا والمروة : هما تطوع .

                                                                                                                                                                                          واحتج من رأى هذا القول بقول الله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما } .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن عائشة رضي الله عنها إيجاب فرض السعي بينهما ، وقالت في هذه الآية : إنما نزلت في ناس كانوا لا يطوفون بينهما ; فلما كان الإسلام طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لو لم تكن إلا هذه الآية لكانت غير فرض لكن الحجة في فرض ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي موسى الأشعري قال { قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منيخ بالبطحاء فقال لي : أحججت ؟ فقلت : نعم فقال : بم أهللت ؟ قال قلت : لبيت بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فقد أحسنت طف بالبيت ، وبين الصفا والمروة وأحل } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : بهذا صار السعي بين الصفا والمروة في العمرة فرضا .

                                                                                                                                                                                          وأما الرمل بينهما - : فحدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب [ ص: 87 ] أنا محمود بن غيلان المروزي نا بشر بن السري نا سفيان هو الثوري - عن عطاء بن السائب عن كثير بن جمهان قال : رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة فقال : إن أمش فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي ، وإن أسع فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى .

                                                                                                                                                                                          قال علي : والخبر الذي فيه " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " فإنما روته صفية بنت شيبة عن امرأة لم تسم ; وقد قيل : هي بنت أبي تجراة وهي مجهولة ، ولو صح لقلنا بوجوبه ، ومن عجز عن الخبب المذكور مشى ولا شيء عليه لقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية