الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال تعالى : ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) أي ولو شاء تعالى أن يجعلكم أيها الناس أمة واحدة ، ذات شريعة واحدة ومنهاج واحد في سلوكها والعمل بها ، لفعل بأن خلقكم على استعداد واحد ، وألزمكم حالة واحدة في أخلاقكم وأطوار معيشتكم ، بحيث تصلح لها شريعة واحدة في كل زمن ، وحينئذ تكونون كسائر أنواع الخلق التي يقف استعدادها عند حد معين ; كالطير أو النمل أو النحل .

                          ( ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ) أي ولكن لم يشأ ذلك ، بل جعلكم نوعا ممتازا يرتقي في أطوار الحياة بالتدريج ، وعلى سنة الارتقاء ، فلا تصلح له شريعة واحدة في كل طور من أطوار حياته في جميع أقوامه وجماعاته ، وآتاكم من الشرائع والمناهج في الفهم والهداية في طور طفولية النوع وغلبة المادية عليه ما يصلح له ، وفي طور تمييزه وغلبة الوجدانات النفسية عليه ما يصلح له ، حتى إذا ما بلغ النوع سن الرشد ومستوى استقلال العقل بظهور ذلك في بعض الأقوام بالقوة ، وفي بعضها بالفعل ، ختم له الشرائع والمناهج بالشريعة المحمدية المبنية على أصل الاجتهاد ، وجعل أمره في القضاء والسياسة والاجتماع شورى بين أولي الأمر من أهل المكانة والعلم والرأي ( ليبلوكم ) أي ليعاملكم بذلك معاملة المختبر لاستعدادكم ( فيما آتاكم ) أي أعطاكم من الشرائع والمناهج ، فتظهر حكمته في تمييزكم على غيركم من أنواع الخلق في أرضكم ، وهو كونكم جامعين بين الحيوانية والملكية .

                          [ ص: 347 ] يظهر مثال ما حققناه في الشرائع والمناهج الأخيرة : اليهودية والنصرانية والإسلامية ، فاليهودية شريعة مبنية على الشدة في تربية قوم ألفوا العبودية والذل ، وفقدوا الاستقلال في الإرادة والرأي ; فهي مادية جسدية شديدة ليس لأهلها فيها رأي ولا اجتهاد ، فالقائم بتنفيذها كالمربي للطفل العارم الشكس .

                          والمسيحية يهودية من جهة وروحانية شديدة من جهة أخرى ، فهي تأمر أهلها بأن يسلموا أمورهم الجسدية والاجتماعية للمتغلبين من أهل السلطة والحكم ، مهما كانوا عليه من الفساد والظلم ، وأن يقبلوا كل ما يسامون به من الخسف والذل ، ويجعلوا عنايتهم كلها بالأمور الروحية ، وتربية العواطف والوجدانات النفسية ; فهي تربية للنوع في طور التمييز عندما كان كالغلام اليافع الذي تؤثر في نفسه الخطابيات والشعريات .

                          وأما الإسلامية فهي القائمة على أساس العقل والاستقلال ، المحققة لمعنى الإنسانية بالجمع بين مصالح الروح والجسد ، وبهذا يصدق عليها قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ( 2 : 143 ) وقوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( 3 : 110 ) فهي مبنية على أساس الاستقلال البشري اللائق بسن الرشد وطور ارتقاء العقل ; ولذلك كانت الأحكام الدنيوية في كتابها قليلة ، وفرض فيها الاجتهاد ; لأن الراشد يفوض إليه أمر نفسه ، فلا يقيد إلا بما يمكن أن يعقله من الأصول القطعية ، ومن مقومات أمته الملية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان ، ومن أحب زيادة التفصيل في هذا البحث فليرجع إلى تفسير قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ) ( 2 : 213 ) الآية ( راجع ص22 وما بعدها ج 2 ط الهيئة ) وتفسير : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) ( 43 : 33 ) في ( ص827 م 15 من المنار ) وإلى فصل ( الدين الإسلامي أو الإسلام ) من رسالة التوحيد لشيخنا الأستاذ الإمام .

                          ومن فقه ما حققناه علم أن حجة الله تعالى بإكمال الله الدين بالقرآن ، وختمه النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعل شريعته عامة دائمة ، لا تظهر إلا ببناء هذا الدين على أساس العقل ، وبناء على هذه الشريعة على أساس الاجتهاد وطاعة أولي الأمر ، الذين هم جماعة أهل الحل والعقد ، فمن منع الاجتهاد فقد منع حجة الله تعالى وأبطل مزية هذه الشريعة على غيرها ، وجعلها غير صالحة لكل الناس في كل زمان ، فما أشد جناية هؤلاء الجهال على الإسلام ، على أنهم يسمون أنفسهم علماء الإسلام .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية