الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم ذكر الله تعالى لرسوله حالا من أحوالهم الحاضرة ، التي هي من آثار تلك السيرة الراسخة ، فقال : ( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا ) أي ترى أيها الرسول ، كثيرا من بني إسرائيل يتولون الذين كفروا ، من مشركي قومك ، ويحرضونهم على قتالك ، وأنت تؤمن بالله ، وبما أنزل على أنبيائهم ، وتشهد لهم بالرسالة ، وأولئك المشركون لا يوحدون الله تعالى ولا يؤمنون بكتبه ، ولا برسله مثلك ، فكيف يتولونهم ، ويحالفونهم عليك ، لولا اتباع أهوائهم ، وسخط الله عليهم ؟ ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ) هذا ذم مؤكد بالقسم لعمل اليهود الذي قدمته لهم أنفسهم ; ليلقوا الله تعالى به في الآخرة ، وما هو إلا العمل القبيح الذي أوجب سخط الله عليهم . فالمخصوص بالذم هو ذلك السخط الذي استحقوه ، وليس أمامهم ما يجزون به سواه ، ولبئس شيئا يقدمه الإنسان لنفسه ، فسيجزون به شر الجزاء ( وفي العذاب هم خالدون ) فهو محيط بهم ، لا يجدون عنه مصرفا ; لأن النجاة من العذاب إنما تكون برضاء الله تعالى وهم لم يعملوا إلا ما أوجب سخطه .

                          ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) أي ولو كان أولئك اليهود الذين يتولون الكافرين من مشركي العرب يؤمنون بالله والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أو النبي الذي يدعون اتباعه ، وهو موسى صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إليه من الهدى والفرقان ، لما اتخذوا أولئك الكافرين من عبدة الأصنام أولياء لهم وأنصارا ; لأن العقيدة الدينية كانت تبعدهم عنهم ، والجنسية علة الضم . وفي العبارة وجه آخر ، وهو : لو كان أولئك الذين كفروا من المشركين يؤمنون بالله والنبي ، وما أنزل إليه ، ما اتخذهم اليهود أولياء ; أي إنهم لم يتخذوهم أولياء إلا لكفرهم بالله ورسوله ، وما أنزل إليه ، والمراد من التوجيهين واحد ، وهو أن هذه الولاية بين اليهود والمشركين لم يكن لها علة إلا اتفاق الفريقين على الكفر بالله ورسوله وكتابه والتعاون على حرب الرسول وإبطال دعوته ، والتنكيل بمن آمن به ، هذا هو المشهور في تفسير الآية .

                          وذهب مجاهد إلى أن المراد بالذين تولاهم اليهود من الذين كفروا المنافقون ، وهو [ ص: 408 ] أظهر الأقوال ، والمعنى : أن أولئك المنافقين كفار ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ، كما يدعون ، ما اتخذهم اليهود أولياء لهم ، فتوليهم إياهم دليل كونهم يسرون الكفر ويظهرون الإيمان نفاقا ، وقد تقدم الكلام في موالاة المنافقين لليهود وغيرهم فيما مضى من تفسير هذه السورة ، وما العهد به ببعيد ، كما تقدم القول في الموالاة والتناصر بين اليهود والمشركين .

                          فاليهود كانوا يتولون المشركين والمنافقين جميعا ; للاشتراك في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وما قلنا إن قول مجاهد أظهر إلا من حيث اللفظ ، وقد بين الله العلة الجامعة بينهم بقوله : ( ولكن كثيرا منهم فاسقون ) أي خارجون من حظيرة الدين ، منسلون منه انسلال الشعرة من العجين ، والقليل لا تأثير له في سيرة الأمة وأعمالها ، والله أعلم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية