الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون فصلت جملة قال على طريقة فصل المحاورات .

والنداء في جوابه إياهم للاهتمام بالخبر ، ولم يخص خطابه بالذين جاوبوه ، بل أعاد الخطاب إلى القوم كلهم ، لأن جوابه مع كونه مجادلة [ ص: 192 ] للملأ من قومه هو أيضا يتضمن دعوة عامة ، كما هو بين ، وتقدم آنفا نكتة التعبير في ندائهم بوصف القوم المضاف إلى ضميره ، فأعاد ذلك مرة ثانية استنزالا لطائر نفوسهم مما سيعقب النداء من الرد عليهم وإبطال قولهم إنا لنراك في ضلال مبين .

والضلالة مصدر مثل الضلال ، فتأنيثه لفظي محض ، والعرب يستشعرون التأنيث غالبا في أسماء أجناس المعاني ، مثل الغواية والسفاهة ، فالتاء لمجرد تأنيث اللفظ وليس في هذه التاء معنى الوحدة لأن أسماء أجناس المعاني لا تراعى فيها المشخصات ، فليس الضلال بمنزلة اسم الجمع للضلالة ، خلافا لما في الكشاف ، وكأنه حاول إثبات الفرق بين قول قومه له إنا لنراك في ضلال ، وقوله هو ليس بي ضلالة وتبعه فيه الفخر ، وابن الأثير في المثل السائر ، وقد تكلف لتصحيحه التفتزاني ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأن التخالف بين كلمتي ضلال وضلالة اقتضاه التفنن حيث سبق لفظ ضلال ، وموجب سبقه إرادة وصفه بـ ( مبين ) ، فلو عبر هنالك بلفظ ضلالة لكان وصفها بمبينة غير مألوف الاستعمال ، ولما تقدم لفظ ( ضلال ) استحسن أن يعاد بلفظ يغايره في السورة دفعا لثقل الإعادة; فقوله ليس بي ضلالة رد لقولهم إنا لنراك في ضلال مبين بمساويه لا بأبلغ منه .

والباء في قوله بي للمصاحبة أو الملابسة ، وهي تناقض معنى الظرفية المجازية من قولهم في ضلال فإنهم جعلوا الضلال متمكنا منه ، فنفى هو أن يكون للضلال متلبس به .

وتجريد ليس من تاء التأنيث مع كون اسمها مؤنث اللفظ جرى على الجواز في تجريد الفعل من علامة التأنيث ، إذا كان مرفوعه غير حقيقي التأنيث ، ولمكان الفصل بالمجرور .

والاستدراك الذي في قوله ولكني رسول لرفع ما توهموه من أنه في ضلال حيث خالف دينهم ، أي هو في حال رسالة عن الله ، مع ما تقتضي الرسالة [ ص: 193 ] من التبليغ والنصح والإخبار بما لا يعلمونه ، وذلك ما حسبوه ضلالا ، وشأن لكن أن تكون جملتها مفيدة معنى يغاير معنى الجملة الواقعة قبلها ، ولا تدل عليه الجملة السابقة وذلك هو حقيقة الاستدراك الموضوعة له لكن فلا بد من مناسبة بين مضموني الجملتين : إما في المسند نحو ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم أو في المسند إليه نحو وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فلا يحسن أن تقول : ما سافرت ولكني مقيم ، وأكثر وقوعها بعد جملة منفية ، لأن النفي معنى واسع ، فيكثر أن يحتاج المتكلم بعده إلى زيادة بيان ، فيأتي بالاستدراك ، ومن قال : إن حقيقة الاستدراك هو رفع ما يتوهم السامع ثبوته أو نفيه فإنما نظر إلى بعض أحوال الاستدراك أو إلى بعض أغراض وقوعه في الكلام البليغ ، وليس مرادهم أن حقيقة الاستدراك لا تقوم إلا بذلك .

واختيار طريق الإضافة في تعريف المرسل : لما تؤذن به من تفخيم المضاف ومن وجوب طاعته على جميع الناس ، تعريضا بقومه إذ عصوه .

وجملة أبلغكم رسالات ربي صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التجدد ، وأنه غير تارك التبليغ من أجل تكذيبهم تأييسا لهم من متابعته إياهم ، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلا من معنى قوله ولكني رسول ، ولذلك جمع الرسالات لأن كل تبليغ يتضمن رسالة بما بلغه ، ثم إن اعتبرت جملة أبلغكم صفة ، يكن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله أبلغكم وقوله ربي التفاتا ، باعتبار كون الموصوف خبرا عن ضمير المتكلم ، وإن اعتبرت استئنافا ، فلا التفات .

والتبليغ والإبلاغ : جعل الشيء بالغا ، أي واصلا إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمه ، فكأنه ينقله من مكان إلى مكان .

[ ص: 194 ] وقرأ الجمهور : أبلغكم بفتح الموحدة وتشديد اللام وقرأه أبو عمرو ، ويعقوب : بسكون الموحدة وتخفيف اللام من الإبلاغ والمعنى واحد .

ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله رسالات ربي هو ما تؤذن به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم من لزوم طاعته ، وأنه لا يسعه إلا تبليغ ما أمره بتبليغه ، وإن كره قومه .

والنصح والنصيحة كلمة جامعة ، يعبر بها عن حسن النية وإرادة الخير من قول أو عمل ، وفي الحديث : الدين النصيحة وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم . ويكثر إطلاق النصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضر .

وضده الغش . وأصل معناه أن يتعدى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يعدى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدلالة على أن الناصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس الناصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصودا بها جانبه لا غير ، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا ، وربما يقع تفاوت بين النفعين فيكون ترجيح نفع الناصح تقصيرا أو إجحافا بنفع المنصوح .

وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النصح لهم ، وأنه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم .

وعقب ذلك بقوله وأعلم من الله ما لا تعلمون جمعا لمعان كثيرة مما تتضمنه الرسالة وتأييدا لثباته على دوام التبليغ والنصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنه يعلم ما لا تعلمونه مما يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمن هذا الإجمال البديع تهديدا لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيها للتأمل فيما [ ص: 195 ] أتاهم به ، وفتحا لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبول ما جاءهم به .

و ( من ) ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمنها هذا الاستدراك هي ما يسلم كل عاقل أنها من الهدى والصلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم .

وانتقل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قوله أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم مفتتحا الجملة بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنهم أحالوا أن يكون رسولا ، مستدلين بأنه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم .

واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عجب ، إشارة إلى أن احتمال وقوع ذلك منهم مما يتردد فيه ظن العاقل بالعقلاء . فقوله أوعجبتم بمنزلة المنع لقضية قولهم إنا لنراك في ضلال مبين لأن قولهم ذلك بمنزلة مقدمة دليل على بطلان ما يدعوهم إليه .

وحقيقة العجب أنه انفعال نفساني يحصل عند إدراك شيء غير مألوف ، وقد يكون العجب مشوبا بإنكار الشيء المتعجب منه واستبعاده وإحالته ، كما في قوله تعالى بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم . والذي في هذه الآية كناية عن الإنكار كما في قوله تعالى قالوا أتعجبين من أمر الله أنكروا عليها أنها عدت ولادتها ولدا ، وهي عجوز ، محالا .

وتنكير ذكر و رجل للنوعية إذ لا خصوصية لذكر دون ذكر [ ص: 196 ] ولا لرجل دون رجل ، فإن الناس سواء ، والذكر سواء في قبوله لمن وفقه الله ، ورده لمن حرم التوفيق ، أي هذا الحدث الذي عظمتموه وضججتم له ما هو إلا ذكر من ربكم على رجل منكم . ووصف رجل بأنه منهم ، أي من جنسهم البشري فضح لشبهتهم ، ومع ما في الكلام من فضح شبهتهم فيه أيضا رد لها بأنهم أحقاء بأن يكون ما جعلوه موجب استبعاد واستحالة هو موجب القبول والإيمان ، إذ الشأن أن ينظروا في الذكر الذي جاءهم من ربهم وأن لا يسرعوا إلى تكذيب الجائي به ، وأن يعلموا أن كون المذكر رجلا منهم أقرب إلى التعقل من كون مذكرهم من جنس آخر من ملك أو جني ، فكان هذا الكلام من جوامع الكلم في إبطال دعوى الخصم والاستدلال لصدق دعوى المجادل ، وهو يتنزل منزلة سند المنع في علم الجدل .

ومعنى على من قوله على رجل منكم يشعر بأن جاءكم ضمن معنى نزل : أي نزل ذكر من ربكم على رجل منكم ، وهذا مختار ابن عطية ، وعن الفراء أن على بمعنى مع .

والمجرور في قوله لينذركم ظرف مستقر في موضع الحال من رجل ، أو هو ظرف لغو متعلق بقوله جاءكم وهو زيادة في تشويه خطئهم إذ جعلوا ذلك ضلالا مبينا ، وإنما هو هدي واضح لفائدتكم بتحذيركم من العقوبة ، وإرشادكم إلى تقوى الله ، وتقريبكم من رحمته .

وقد رتبت الجمل على ترتيب حصول مضمونها في الوجود ، فإن الإنذار مقدم لأنه حمل على الإقلاع عما هم عليه من الشرك أو الوثنية ، ثم يحصل بعده العمل الصالح فترجى منه الرحمة .

والإنذار تقدم عند قوله تعالى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا في سورة البقرة .

والتقوى تقدم عند قوله تعالى هدى للمتقين في أول سورة البقرة .

[ ص: 197 ] ومعنى لعل تقدم في قوله تعالى لعلكم تتقون في سورة البقرة .

والرحمة تقدمت عند قوله تعالى الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية