الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (229):

وظاهر الفاء الدالة على التعقيب أن يكون الإمساك عقيب الطلاق، والإمساك إنما هو الرجعة لأنها ضد حكم الطلاق، لأن حكم الطلاق [ ص: 172 ] الفرقة بعد انقضاء العدة. فسمى الله تعالى الرجعة إمساكا لبقاء الرجعة لها بعد مضي الثلاث حيض، وارتفاع حكم البينونة المتعلقة بانقضاء العدة.

وإنما أباح الله تعالى إمساكا على وصف، وهو أن يكون بمعروف، وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل، ولا يقصد به الإضرار بها على ما ذكره في قوله:

ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا .

فإنه إنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة، ومتى راجع بغير معروف كان عاصيا، والرجعة صحيحة.

وظن ظانون أن قوله تعالى: فإمساك بمعروف يتناول ما يكون متمسكا به، والجماع أقوى مقاصد النكاح، فكان إمساكا بالمعروف فتحصل به الرجعة وهذا الظن غلط فإن قوله: فإمساك بمعروف ما كان بالقول، فإن قابله بقوله: أو تسريح بإحسان ولا طلاق إلا بالقول، وكذلك لا إمساك إلا بالقول، ويدل عليه أنه قال في موضع آخر:

فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم .

ولا يقول عاقل إنه يتناول الجماع، ليشهد عليه ذوي عدل، إلا أن يقر بالوطء، ويشهد على الإقرار، وذلك خلاف المشروع لأن المشروع الشهادة على نفس الرجعة لا على الإقرار بها. [ ص: 173 ] وقوله تعالى: أو تسريح بإحسان ، فقد قيل فيه قولان: أن المراد به الثالثة..

ورووا عن أبي رزين أنه قال رجل: يا رسول الله، أسمع الله تعالى يقول: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف فأين الثالثة؟

فقال: أو تسريح بإحسان،
وهذا الخبر غير ثابت من طريق النقل..

وقال الضحاك والسدي إنه بتركها حتى تنقضي عدتها، ويظهر هذا المعنى في موضع آخر في قوله:

وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف (231).

والمراد التسريح بترك الرجعة إذ يبعد أن يقول: طلقوا واحدة أخرى وقال:

فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف .

ولم يرد به إيقاعا مستقبلا، وإنما أراد به تركها حتى تنقضي عدتها..

نعم ، الثالثة مذكورة في مساق الخطاب في قوله تعالى:

فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (230).

فالثالثة مذكورة في صلة هذا الخطاب، مفيدة للبينونة الموجبة [ ص: 174 ] التحريم، إلا بعد زوج، ووجب حمل قوله تعالى: أو تسريح بإحسان على فائدة مجددة، وهي وقوع البينونة بالثنتين عند انقضاء العدة.

وعلى أن المقصد من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: أو تسريح بإحسان هو الثالثة، لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها، إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ، فوجب أن لا يكون معنى قوله: أو تسريح بإحسان الثالثة، ولو كان قوله: أو تسريح بإحسان بمعنى الثالثة، كان قوله عقيب ذلك: فإن طلقها الرابعة، لأن الفاء للتعقيب، قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعدما تقدم ذكره.

فثبت بذلك أن قوله: أو تسريح بإحسان وهو تركها حتى تنقضي عدتها.

وهذا صحيح عندنا، إلا أنه إذا لم يكن التسريح المذكور في القرآن بمعنى الطلاق، فلا يكون فيه دلالة على كون لفظ السراح صريحا على ما قاله أصحابنا، لأن الله تعالى ما أراد به بيان اللفظ، وإنما أراد به تخلية سبيلها، حتى تبين بالطلاق المتقدم بعد انقضاء العدة، من غير [ ص: 175 ] اعتبار لفظ آخر، فليطلب لكون السراح صريحا مأخذ آخر على هذا الرأي ...

قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره تبعد دلالته على الوطء مضافا إليها حتى يقال: إن المراد به حتى تطأ زوجا غيره.

وإنما المراد به حتى تجتمع بزوج غيره، والاجتماع يحتمل الوطء، ويحتمل غيره، ودل خبر رفاعة على اعتبار الوطء، ولم يخالف فيه غير سعيد بن المسيب، فإنه قال: يكفي النكاح.

ولئن قيل: ترك دلالة الغاية المذكورة لمجرد خبر رفاعة بعيد.

فيقال: وما بين الله تفصيل الغاية، فإنه قال:

فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فذكر الوطء شرطا، ويجوز أن يكون وراء هذا الشرط شرط آخر، ويجوز أن لا يكون، مثل قوله:

ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا .

ويجوز أن تغتسل وتتوقف الاستباحة على شرط آخر.

وذكر شرط وبيان توقف الحكم عليه، لا يمنع اعتبار شرط آخر، [ ص: 176 ] والدليل عليه أنه قال: فإن طلقها ، فاعتبر الطلاق وحل المحل ثابت قبله، وقال: فإن طلقها فلا جناح عليهما (230)وانقضاء العدة معتبر أيضا.

قوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله الآية . (229).

وقد قال تعالى في آية أخرى:

وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا .

فهذا يمنع أخذ شيء منه دون رضاها، إذا كان النشوز منه..

وقال في آية أخرى:

ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فقيد بحالة خوف الشقاق..

وقال في موضع آخر:

لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن [ ص: 177 ] لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ..

ومعنى الفاحشة، يحتمل أن يكون نشوزا من قبلها، أو زنا يخرج صدره، ويحمله على المخاصمة.

وذكر الله تعالى في موضع آخر، إباحة أخذ المهر في قوله تعالى: وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا .

وقال تعالى:

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح . [ ص: 178 ] قوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا محكم تعضده الأصول، وهو أنه إذا جاز له أخذ المال منها برضاها في غير الخلع، فهو في حال الخلع جائز.

وقال بعض السلف: إنه لا يجوز إلا في حالة الضرورة وخوف الشقاق وهو باطل، فإن الغرض من ذكر حال الشقاق، بيان الخلع في غالب الحال، وإلا فعموم قوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ، مع ظهور العلة فيه، وهو كون المبذول حقا لها، ولها أن تهب من شاءت أولى بالاعتبار.

وكذلك يشهد له قوله عليه السلام:

"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" .

واختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أم طلاق؟

فالذي لا يراه طلاقا يقول:

قد قال تعالى: الطلاق مرتان .

ثم قال: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله .

ثم قال بعد ذلك: فإن طلقها ، فلو كان الخلع طلاقا، لكان [ ص: 179 ] الخلع بعد ذكر طلقتين ثالثا، وكان قوله: فإن طلقها بعد ذلك، دالا على الطلاق الرابع.

وهذا غلط، فإن قوله: الطلاق مرتان أفاد حكم الاثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع، وأثبت معهما الرجعة بقوله: فإمساك بمعروف ، ثم ذكر حكمهما إذا كان على وجه الخلع، فعاد الخلع إلى الثنتين المقدم ذكرهما.

أو المراد بذلك بيان الطلاق المطلق، والطلاق بعوض، والطلاق الثلاث بعوض كان أو بغير عوض، فإنه يقطع الحل إلا بعد زوج.

وظن ظانون أن في الآية ما يدل على أن المختلعة يلحقها الطلاق فإنه قال: فإن خفتم ، وذلك بيان الطلاق المقدم ذكره بعوض، ثم قال:

فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره .

فتكون الثالثة حاصلة بعد الخلع.

ويدل على أن الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة:

فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله (230)، عطفا على ما تقدم ذكره في قوله: [ ص: 180 ] ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله (229).

فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة، بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف، لترك إقامة حدود الله تعالى، لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة.

فدل ذلك على أن هذه الثالثة مذكورة بعد الخلع.

وزعموا أن قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل ، يبعد أن يرجع إلى قوله: الطلاق مرتان ، لأن الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله: فإن طلقها ، على قوله: الطلاق مرتان ، بل الأقرب عوده إلى ما يليه كما في الاستثناء، بلفظ التخصيص أنه عائد إلى ما يليه ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى:

وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن .

صار مقصورا على ما يليه، غير عائد إلى ما تقدمه، حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء.

وذكروا أن هذا أبعد من ذلك، فإن عطفه على ما يليه وما تقدمه، أقرب من إخراج ما يليه بالكلية وترك العطف عليه .

وهذا الذي توهمه هؤلاء باطل، فإن قوله: فإن طلقها ، ليس يدل على الثالث إلا بتقدير عطفه على عدد مذكور قبله. [ ص: 181 ] وقوله تعالى: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به (229)، لا يدل على طلقتين لا تعريضا ولا تصريحا، حتى يكون قوله: فإن طلقها مرتبا عليه.

وقوله تعالى: فلا جناح عليهما فيما افتدت به مسوق لبيان جواز بذل العوض، لا لبيان عدد الطلاق والمقابل للعوض.

وقوله تعالى: الطلاق مرتان يدل على عدد الطلاق الذي يثبت فيه حق الرجعة.

وقوله: فإن طلقها بيان تمام ذلك العدد، الذي لا يقترن به الاستدراك.

ثم جواز الافتداء يستوي فيه الواحد والعدد، وذلك بين بأول الخاطر، وليس فيه شبهة على متأمل.

التالي السابق


الخدمات العلمية