الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدو كما سترى تحقيقه إن شاء الله ، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار . وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال : الأول : أن المراد به حصر العدو خاصة دون المرض ونحوه ، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير - رضي الله عنهم - وبه قال مروان ، وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدو خاصة ، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه ، ويطوف بالبيت ويسعى ، فيكون متحللا بعمرة ، وحجة هذا القول متركبة من أمرين : الأول : أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) [ 2 \ 196 ] نزلت في صد المشركين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ست بإطباق العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص ، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو ، الذي هو سبب نزولها قطعي ، فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه ، وروي عن مالك - رحمه الله - أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته ، وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب



                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى ، وأنه نزل به القرآن العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز .

                                                                                                                                                                                                                                      الأمر الثاني : ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلل إلا بالطواف والسعي ، فمن ذلك ما رواه الشافعي في " مسنده " والبيهقي عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 78 ] قال النووي في " شرح المهذب " : إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وصححه أيضا ابن حجر ، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي ، عن ابن عمر أنه كان يقول : " أليس حسبكم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم يحل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا " ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " ، والبيهقي عن ابن عمر أنه قال : " المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، فإذا اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى " ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن أيوب السختياني ، عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال : خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، والناس فلم يرخص لي أحد أن أحل ، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة . والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك قال ابن عبد البر : هو أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي شيخ أيوب ، ومعلمه كما رواه حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، ورواه ابن جرير من طرق ، وسمى الرجل يزيد بن عبد الله بن الشخير .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن سليمان بن يسار : " أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم ، فسأل على الماء الذي كان عليه عن العلماء ، فوجد عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، ومروان بن الحكم ، فذكر لهم الذي عرض له فكلهم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه ، ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه ، ثم عليه حج قابل ، ويهدي ما استيسر من الهدي " .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مالك : وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو ، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالا ، ثم يحجان عاما قابلا ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " والبيهقي أيضا عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تقول : " المحرم لا يحله إلا البيت " والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو ، كما جزم به الزرقاني في " شرح الموطأ " هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية