الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وأما الأصل الثاني - وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح - فكثير جدا ، كقوله تعالى [ ص: 249 ] وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشة قبل نهيه عنه ، وأمر باجتنابه بأخذ الزينة ، والفاحشة هاهنا هي طوافهم بالبيت عراة - الرجال والنساء - غير قريش ثم قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء أي لا يأمر بما هو فاحشة في العقول والفطر ، ولو كان إنما علم كونه فاحشة بالنهي ، وأنه لا معنى لكونه فاحشة إلا تعلق النهي به ، لصار معنى الكلام أن الله لا يأمر بما ينهى عنه ، وهذا يصان عن التكلم به آحاد العقلاء ، فضلا عن كلام العزيز الحكيم ، وأي فائدة في قوله : إن الله لا يأمر بما ينهى عنه ؟ فإنه ليس لمعنى كونه فاحشة عندهم إلا أنه منهي عنه ، لا أن العقول تستفحشه .

ثم قال تعالى قل أمر ربي بالقسط والقسط عندهم هو المأمور به ، لا أنه قسط في نفسه ، فحقيقة الكلام قل أمر ربي بما أمر به .

ثم قال قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق دل على أنه طيب قبل التحريم ، وأن وصف الطيب فيه مانع من تحريمه مناف للحكمة .

ثم قال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها ، وليست فواحش قبل ذلك ، لكان حاصل الكلام : قل إنما حرم ربي ما حرم ، وكذلك تحريم الإثم والبغي ، فكون ذلك فاحشة وإثما وبغيا بمنزلة كون الشرك شركا ، فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده .

فمن قال : إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي ، فهو [ ص: 250 ] بمنزلة من يقول : الشرك إنما صار شركا بعد النهي ، وليس شركا قبل ذلك .

ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة ، فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده ، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده ، والفاحشة كذلك ، وكذلك الشرك ، لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك .

نعم ، الشارع كساها بنهيه عنها قبحا إلى قبحها ، فكان قبحها من ذاتها ، وازدادت قبحا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها وذمه لها ، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها ، كما أن العدل والصدق والتوحيد ، ومقابلة نعم المنعم بالثناء والشكر حسن في نفسه ، وازداد حسنا إلى حسنه بأمر الرب به ، وثنائه على فاعله ، وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله .

بل من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث .

فلو كان كونه معروفا ومنكرا وخبيثا وطيبا إنما هو لتعلق الأمر والنهي والحل والتحريم به ، لكان بمنزلة أن يقال : يأمرهم بما يأمرهم به ، وينهاهم عما ينهاهم عنه ، ويحل لهم ما يحل لهم ، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم ! وأي فائدة في هذا ؟ وأي علم يبقى فيه لنبوته ؟ وكلام الله يصان عن ذلك ، وأن يظن به ذلك ، وإنما المدح والثناء والعلم الدال على نبوته أن ما يأمر به تشهد العقول الصحيحة حسنه وكونه معروفا ، وما ينهى عنه تشهد قبحه وكونه منكرا ، وما يحله تشهد كونه طيبا ، وما يحرمه تشهد كونه خبيثا ، وهذه دعوة جميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، وهي بخلاف دعوة المتغلبين المبطلين ، والكذابين والسحرة ، فإنهم يدعون إلى ما يوافق أهواءهم وأغراضهم من كل قبيح ومنكر وبغي وإثم وظلم .

ولهذا قيل لبعض الأعراب وقد أسلم ، لما عرف دعوته صلى الله عليه وسلم - عن أي شيء أسلمت ؟ وما رأيت منه مما دلك على أنه رسول الله ؟ قال ما أمر بشيء ، فقال العقل : ليته نهى عنه ، ولا نهى عن شيء ، فقال العقل : ليته أمر به ، ولا أحل شيئا ، فقال العقل : ليته حرمه ، ولا حرم شيئا ، فقال العقل : ليته أباحه ، فانظر إلى هذا الأعرابي ، وصحة عقله وفطرته ، وقوة إيمانه ، واستدلاله على صحة دعوته بمطابقة أمره لكل ما حسن في العقل ، وكذلك مطابقة تحليله وتحريمه ، ولو كان جهة الحسن والقبح والطيب والخبث مجرد تعلق الأمر والنهي والإباحة والتحريم به لم يحسن منه هذا الجواب ، ولكان بمنزلة أن يقول : وجدته يأمر وينهى ، ويبيح ويحرم ، وأي دليل في هذا ؟ .

[ ص: 251 ] وكذلك قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي .

وهؤلاء يزعمون أن الظلم في حق عباده هو المحرم والمنهي عنه ، لا أن هناك في نفس الأمر ظلما نهى عنه ، وكذلك الظلم الذي نزه نفسه عنه هو الممتنع المستحيل ، لا أن هناك أمرا ممكنا مقدورا لو فعله لكان ظلما ، فليس في نفس الأمر عندهم ظلم منهي عنه ولا منزه عنه ، إنما هو المحرم في حقه ، والمستحيل في حقه ، فالظلم المنزه عنه عندهم هو الجمع بين النقيضين ، وجعل الجسم الواحد في مكانين في آن واحد ، ونحو ذلك .

والقرآن صريح في إبطال هذا المذهب أيضا ، قال الله تعالى قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد أي لا أؤاخذ عبدا بغير ذنب ، ولا أمنعه من أجر ما عمله من صالح ، ولهذا قال قبله وقد قدمت إليكم بالوعيد المتضمن لإقامة الحجة ، وبلوغ الأمر والنهي ، وإذا آخذتكم بعد التقدم فلست بظالم ، بخلاف من يؤاخذ العبد قبل التقدم إليه بأمره ونهيه ، فذلك الظلم الذي تنزه الله سبحانه وتعالى عنه .

وقال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما يعني لا يحمل عليه من سيئات ما لم يعمله ، ولا ينقص من حسنات ما عمل ، ولو كان الظلم هو المستحيل الذي لا يمكن وجوده لم يكن لعدم الخوف منه معنى ، ولا للأمن من وقوعه فائدة .

وقال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد أي لا يحمل المسيء عقاب ما لم يعمله ، ولا يمنع المحسن من ثواب عمله .

وقال تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون فدل على أنه لو أهلكهم مع إصلاحهم لكان ظالما ، وعندهم يجوز ذلك ، وليس بظلم لو فعل ، [ ص: 252 ] ويأولون الآية على أنه سبحانه أخبر أنه لا يهلكهم مع إصلاحهم ، وعلم أنه لا يفعل ذلك ، وخلاف خبره ومعلومه مستحيل ، وذلك حقيقة الظلم ، ومعلوم أن الآية لم يقصد بها هذا قطعا ولا أريد بها ، ولا تحتمله بوجه ، إذ يئول معناها إلى أنه ما كان ليهلك القرى بظلم بسبب اجتماع النقيضين وهم مصلحون ، وكلامه تعالى يتنزه عن هذا ويتعالى عنه .

وكذلك عند هؤلاء أيضا العبث والسدى والباطل ، كلها هي المستحيلات الممتنعة التي لا تدخل تحت المقدور ، والله سبحانه قد نزه نفسه عنها ، إذ نسبه إليها أعداؤه المكذبون بوعده ووعيده ، المنكرون لأمره ونهيه ، فأخبر أن ذلك يستلزم كون الخلق عبثا وباطلا ، وحكمته وعزته تأبى ذلك ، قال تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون أي لغير شيء ، لا تؤمرون ولا تنهون ، ولا تثابون ولا تعاقبون ، والعبث قبيح ، فدل على أن قبح هذا مستقر في الفطر والعقول ، ولذلك أنكره عليهم إنكار منبه لهم على الرجوع إلى عقولهم وفطرهم ، وأنهم لو فكروا وأبصروا لعلموا أنه لا يليق به ، ولا يحسن منه أن يخلق خلقه عبثا ، لا لأمر ولا لنهي ، ولا لثواب ولا لعقاب ، وهذا يدل على أن حسن الأمر والنهي والجزاء مستقر في العقول والفطر ، وأن من جوز على الله الإخلال به فقد نسبه إلى ما لا يليق به ، وإلى ما تأباه أسماؤه الحسنى وصفاته العليا .

وكذلك قوله تعالى أيحسب الإنسان أن يترك سدى قال الشافعي : مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، وقال غيره : لا يثاب ولا يعاقب ، وهما متلازمان ، فأنكر على من يحسب ذلك ، فدل على أنه قبيح تأباه حكمته وعزته ، وأنه لا يليق به ، ولهذا استدل على أنه لا يتركه سدى بقوله : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى إلى آخر السورة ، ولو كان قبحه إنما علم بالسمع لكان يستدل عليه بأنه خلاف السمع ، وخلاف ما أعلمناه وأخبرنا به ، ولم يكن إنكاره لكونه قبيحا في نفسه ، بل لكونه خلاف ما أخبر به ، ومعلوم أن هذا ليس وجه الكلام .

وكذلك قوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا والباطل الذي ظنوه : ليس هو الجمع بين النقيضين ، بل الذي ظنوه : أنه لا [ ص: 253 ] شرع ولا جزاء ، ولا أمر ولا نهي ، ولا ثواب ولا عقاب ، فأخبر أن خلقها لغير ذلك هو الباطل الذي تنزه عنه ، وذلك هو الحق الذي خلقت به ، وهو التوحيد ، وحقه وجزاؤه وجزاء من جحده وأشرك بربه .

وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون فأنكر سبحانه هذا الحسبان إنكار منبه للعقل على قبحه ، وأنه حكم سيئ ، والحاكم به مسيء ظالم ، ولو كان قبحه لكونه خلاف ما أخبر به لم يكن الإنكار لما اشتمل عليه من القبح اللازم من التسوية بين المحسن والمسيء ، المستقر قبحه في فطر العالمين كلهم ، ولا كان هنا حكم سيئ في نفسه ينكر على من حكم به .

وكذلك قوله : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وهذا استفهام إنكار ، فدل على أن هذا قبيح في نفسه ، منكر تنكره العقول والفطر ، أفتظنون أن ذلك يليق بنا أو يحسن منا فعله ؟ فأنكره سبحانه إنكار منبه للعقل والفطرة على قبحه ، وأنه لا يليق بالله نسبته إليه .

وكذلك إنكاره سبحانه قبح الشرك به في إلهيته ، وعبادة غيره معه بما ضربه لهم من الأمثال ، وأقام على بطلانه من الأدلة العقلية ، ولو كان إنما قبح بالشرع لم يكن لتلك الأدلة والأمثال معنى .

وعند نفاة التحسين والتقبيح يجوز في العقل أن يأمر بالإشراك به وبعبادة غيره ! وإنما علم قبحه بمجرد النهي عنه ! .

فيا عجبا ! أي فائدة تبقى في تلك الأمثال والحجج ، والبراهين الدالة على قبحه في صريح العقول والفطر ؟ وأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم ؟ وأي شيء يصح في العقل إذا لم يكن فيه علم بقبح الشرك الذاتي ، وأن العلم بقبحه بديهي معلوم بضرورة العقل ، وأن الرسل نبهوا الأمم على ما في عقولهم وفطرهم من قبحه ، وأن أصحابه ليست لهم عقول ولا ألباب ولا أفئدة ، بل نفى عنهم السمع والبصر ، والمراد سمع القلب وبصره ، فأخبر أنهم صم بكم عمي ، وذلك وصف قلوبهم أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ، وشبههم بالأنعام التي لا عقول لها تميز بها بين الحسن والقبيح ، والحق والباطل ، ولذلك اعترفوا في [ ص: 254 ] النار بأنهم لم يكونوا من أهل السمع والعقل ، وأنهم لو رجعوا إلى أسماعهم وعقولهم لعلموا حسن ما جاءت به الرسل وقبح مخالفتهم .

قال الله تعالى حاكيا عنهم وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وكم يقول لهم في كتابه " أفلا تعقلون " ، " لعلكم تعقلون " .

فينبههم على ما في عقولهم وفطرهم من الحسن والقبيح ، ويحتج عليهم بها ، ويخبر أنه أعطاهموها لينتفعوا بها ، ويميزوا بها بين الحسن والقبيح والحق والباطل .

وكم في القرآن من مثل عقلي وحسي ينبه به العقول على حسن ما أمر به ، وقبح ما نهى عنه ، فلو لم يكن في نفسه كذلك لم يكن لضرب الأمثال للعقول معنى ، ولكان إثبات ذلك بمجرد الأمر والنهي دون ضرب الأمثال ، وتبيين جهة القبح المشهودة بالحسن والعقل .

والقرآن مملوء بهذا لمن تدبره ، كقوله تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون يحتج سبحانه عليهم بما في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكا له ، فإذا كان أحدكم يستقبح أن يكون مملوكه شريكه ، ولا يرضى بذلك ، فكيف تجعلون لي من عبيدي شركاء تعبدونهم كعبادتي ؟ وهذا يبين أن قبح عبادة غير الله تعالى مستقر في العقول والفطر ، والسمع نبه العقول وأرشدها إلى معرفة ما أودع فيها من قبح ذلك .

وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون احتج سبحانه على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئوا الملكة ، وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له ، فهل يصح في العقول استواء حال العبدين ؟ فكذلك حال المشرك والموحد الذي قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان .

وكذلك قوله تعالى ممثلا لقبح الرياء المبطل للعمل ، والمن والأذى المبطل [ ص: 255 ] للصدقات ب " صفوان " وهو الحجر الأملس عليه تراب غبار قد لصق به فأصابه مطر شديد فأزال ما عليه من التراب فتركه صلدا أملس لا شيء عليه ، وهذا المثل في غاية المطابقة لمن فهمه ، ف " الصفوان " وهو الحجر ، كقلب المرائي والمان والمؤذي ، والتراب الذي لصق به ما تعلق به من أثر عمله وصدقته ، والوابل المطر الذي به حياة الأرض ، فإذا صادفها لينة قابلة نبت فيها الكلأ ، وإذا صادف الصخور والحجارة الصم لم ينبت فيها شيئا ، فجاء هذا الوابل إلى التراب الذي على الحجر ، فصادفه رقيقا ، فأزاله ، فأفضى إلى حجر غير قابل للنبات .

وهذا يدل على أن قبح المن ، والأذى ، والرياء مستقر في العقول ، فلذلك نبهها على شبهه ومثاله .

وعكس ذلك قوله تعالى ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير فإن كانت هذه الجنة - التي بموضع عال ، حيث لا تحجب عنها الشمس والرياح ، وقد أصابها مطر شديد ، فأخرجت ثمرتها ضعفي ما يخرج غيرها - إن كانت مستحسنة في العقل والحس ، فكذلك نفقة من أنفق ماله لوجه الله ، لا لجزاء من الخلق ، ولا لشكور ، بل بثبات من نفسه ، وقوة على الإنفاق ، لا يخرج النفقة وقلبه يرجف على خروجها ، ويداه ترتعشان ، ويضعف قلبه ، ويخور عند الإنفاق ، بخلاف نفقة صاحب التثبيت والقوة .

ولما كان الناس في الإنفاق على هذين القسمين كان مثل نفقة صاحب الإخلاص والقوة والتثبيت كمثل الوابل ، ومثل نفقة الآخر كمثل الطل ، وهو المطر الضعيف ، فهذا بحسب كثرة الإنفاق وقلته ، وكمال الإخلاص والقوة واليقين فيه وضعفه ، أفلا تراه سبحانه نبه العقول على ما فيها من استحسان هذا ، واستقباح فعل الأول ؟

وكذلك قوله : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون فنبه سبحانه العقول على [ ص: 256 ] ما فيها من قبح الأعمال السيئة التي تحبط ثواب الحسنات ، وشبهها بحال شيخ كبير له ذرية ضعفاء ، بحيث يخشى عليهم الضيعة وعلى نفسه ، وله بستان هو مادة عيشه وعيش ذريته ، فيه النخيل والأعناب ومن كل الثمرات ، فأرجى وأفقر ما هو له وأسر ما كان به إذ أصابه نار شديدة فأحرقته ، فنبه العقول على أن قبح المعاصي التي تغرق الطاعات كقبح هذه الحال ، وبهذا فسرها عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم لرجل غني عمل بطاعة الله زمانا ، فبعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله ، ذكره البخاري في صحيحه .

أفلا تراه نبه العقول على قبح المعصية بعد الطاعة ، وضرب لقبحها هذا المثل ؟ .

ونفاة التعليل والأسباب والحكم ، وحسن الأفعال لقبحها هذا المثل ؟ إلا محض المشيئة ، لا أن بعض الأعمال يبطل بعضا ، وليس فيها ما هو قبيح لعينه ، حتى يشبه بقبيح آخر ، وليس فيها ما هو منشأ لمفسدة أو مصلحة تكون سببا لها ، ولا لها علل غائية هي مفضية إليها ، وإنما هي متعلق المشيئة والإرادة والأمر والنهي فقط .

والفقهاء لا يمكنهم البناء على هذه الطريقة البتة ، فكلهم مجمعون - إذا تكلموا بلسان الفقه - على بطلانها ، إذ يتكلمون في العلل والمناسبات الداعية لشرع الحكم ، ويفرقون بين المصالح الخالصة والراجحة والمرجوحة ، والمفاسد التي هي كذلك ، ويقدمون أرجح المصلحتين على مرجوحهما ، ويدفعون أقوى المفسدتين باحتمال أدناهما ، ولا يتم لهم ذلك إلا باستخراج الحكم والعلل ، ومعرفة المصالح والمفاسد الناشئة من الأفعال ، ومعرفة ربها .

وكذلك الأطباء لا يصلح لهم علم الطب وعمله إلا بمعرفة قوى الأدوية والأمزجة ، والأغذية وطبائعها ، ونسبة بعضها إلى بعض ، ومقدار تأثير بعضها في بعض ، وانفعال بعضها عن بعض ، والموازنة بين قوة الدواء وقوة المرض وقوة المريض ، ودفع الضد بضده ، وحفظ ما يريدون حفظه بمثله ومناسبه ، فصناعة الطب وعمله مبني على معرفة الأسباب والعلل ، والقوى والطبائع والخواص ، فلو نفوا ذلك وأبطلوه ، وأحالوا على محض المشيئة وصرف الإرادة المجردة عن الأسباب والعلل ، وجعلوا حقيقة النار مساوية لحقيقة الماء ، وحقيقة الدواء مساوية لحقيقة الغذاء ليس في أحدهما خاصية ولا قوة يتميز [ ص: 257 ] بها عن الآخر لفسد علم الطب ، ولبطلت حكمة الله فيه ، بل العالم مربوط بالأسباب والقوى ، والعلل الفاعلية والغائية .

وعلى هذا قام الوجود بتقدير العزيز العليم ، والكل مربوط بقضائه وقدره ومشيئته ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فإذا شاء سلب قوة الجسم الفاعل منه ومنع تأثيرها ، وإذا شاء جعل في الجسم المنفعل قوة تدفعها وتمنع موجبها مع بقائها ، وهذا لكمال قدرته ونفوذ مشيئته .

والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام :

منهم : من بالغ في نفيها وإنكارها ، فأضحك العقلاء على عقله ، وزعم أنه بذلك ينصر الشرع ، فجنى على العقل والشرع ، وسلط خصمه عليه .

ومنهم : من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ، ومدبر لها يصرفها كيف أراد ، فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه ، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها ، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار .

وهذان طرفان جائران عن الصواب .

ومنهم : من أثبتها خلقا وأمرا ، قدرا وشرعا ، وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به ، من كونها تحت تدبيره ومشيئته ، وهي طوع المشيئة والإرادة ، ومحل جريان حكمها عليها ، فيقوي سبحانه بعضها ببعض ، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض ، ويسلب بعضها قوته وسببيته ، ويعريها منها ، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه ، ليعلم خلقه أنه الفعال لما يريد ، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته ، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت ، مع كونه سببا .

وهذا باب عظيم نافع في التوحيد ، وإثبات الحكم ، يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها ، والتعلق به دونها ، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه ، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارا وضارها نافعا ، ودواءها داء وداءها دواء ، فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد ، وإنكار أن تكون أسبابا بالكلية قدح في الشرع والحكمة ، والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابا - نقصان في العقل ، وتنزيلها منازلها ، ومدافعة بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، وشهود الجمع في تفرقها ، والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة ، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية