الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( أما ) الأول فالجنابة تثبت بأمور بعضها مجمع عليه ، وبعضها مختلف فيه ( أما ) المجمع عليه فنوعان أحدهما خروج المني عن شهوة دفقا من غير إيلاج بأي سبب حصل الخروج كاللمس ، والنظر ، والاحتلام ، حتى يجب الغسل بالإجماع لقوله صلى الله عليه وسلم { الماء من الماء } ، أي : الاغتسال من المني ، ثم إنما وجب غسل جميع البدن بخروج المني ، ولم يجب بخروج البول ، والغائط ، وإنما وجب غسل الأعضاء المخصوصة لا غير لوجوه أحدها : أن قضاء الشهوة بإنزال المني استمتاع بنعمة يظهر أثرها في جميع البدن ، وهو اللذة فأمر بغسل جميع البدن شكرا لهذه النعمة ، وهذا لا يتقرر في البول ، والغائط ، والثاني أن الجنابة تأخذ جميع البدن ظاهره ، وباطنه ; لأن الوطء الذي هو سببه لا يكون إلا باستعمال لجميع ما في البدن من القوة ، حتى يضعف الإنسان بالإكثار منه ، ويقوى بالامتناع فإذا أخذت الجنابة جميع البدن الظاهر ، والباطن وجب غسل جميع البدن الظاهر ، والباطن بقدر الإمكان ، ولا كذلك الحدث فإنه لا يأخذ إلا الظاهر من الأطراف ، لأن سببه يكون بظواهر الأطراف من الأكل ، والشرب ، ولا يكونان باستعمال جميع البدن فأوجب غسل ظواهر الأطراف لا جميع البدن ، والثالث أن غسل الكل ، أو البعض وجب وسيلة إلى الصلاة التي هي خدمة الرب سبحانه ، وتعالى ، والقيام بين يديه ، وتعظيمه فيجب أن يكون المصلي على أطهر الأحوال ، وأنظفها ليكون أقرب إلى التعظيم ، وأكمل في الخدمة ، وكمال النظافة يحصل بغسل جميع البدن ، وهذا هو العزيمة في الحدث أيضا إلا أن ذلك مما يكثر وجوده فاكتفى فيه بأيسر النظافة ، وهي تنقية الأطراف التي تنكشف كثيرا ، وتقع عليها الأبصار أبدا ، وأقيم ذلك مقام غسل كل البدن دفعا للحرج ، وتيسيرا فضلا من الله ، ونعمة ، ولا حرج في الجنابة لأنها لا تكثر فبقي الأمر فيها على العزيمة ، والمرأة كالرجل في الاحتلام لما روي عن { أم سليم أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها مثل ما يرى الرجل فقال : صلى الله عليه وسلم إن كان منها مثل ما يكون من الرجل فلتغتسل } .

                                                                                                                                وروي أن { أم سليم كانت مجاورة لأم سلمة رضي الله عنها وكانت تدخل عليها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأم سليم عندها فقالت : يا رسول الله المرأة إذا رأت أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل فقالت أم سلمة لأم سليم تربت يداك يا أم سليم فضحكت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سليم : إن الله لا يستحي من الحق ، وإنا إن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يشكل علينا خير من أن نكون فيه على عمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنت يا أم سلمة تربت يداك يا أم سليم عليها الغسل إذا وجدت الماء } .

                                                                                                                                وذكر ابن رستم في نوادره إذا احتلم الرجل ولم يخرج الماء من إحليله لا غسل عليه والمرأة إذا احتلمت ولم يخرج الماء إلى ظاهر فرجها اغتسلت ، لأن لها فرجين ، والخارج منهما له حكم الظاهر ، حتى يفترض إيصال الماء إليه في الجنابة ، والحيض فمن الجائز أن الماء إذا بلغ ذلك الموضع ، ولم يخرج ، حتى لو كان الرجل أقلف فبلغ الماء قلفته وجب عليه الغسل ، والثاني إيلاج الفرج في الفرج في السبيل المعتاد سواء أنزل ، أو لم ينزل لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم لما اختلفوا في وجوب الغسل بالتقاء الختانين بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان المهاجرون يوجبون الغسل ، والأنصار لا ، بعثوا أبا موسى الأشعري إلى عائشة رضي الله عنها فقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { : إذا التقى الختانان ، وغابت الحشفة وجب الغسل أنزل ، أو لم ينزل } فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلنا فقد روت قولا ، وفعلا .

                                                                                                                                وروي عن علي رضي الله عنها أنه قال في الإكسال يوجب الحد أفلا يوجب صاعا من ماء ، ولأن إدخال الفرج في الفرج المعتاد من الإنسان سبب لنزول المني عادة فيقام مقامه احتياطا ، وكذا الإيلاج في السبيل الآخر حكمه حكم الإيلاج في السبيل المعتاد في وجوب الغسل بدون الإنزال أما على أصل أبي يوسف ، ومحمد فظاهر ، لأنه يوجب الحد أفلا يوجب صاعا من ماء .

                                                                                                                                وأما على أصل أبي حنيفة فإنما لم يوجب الحد احتياطا ، والاحتياط في وجوب الغسل ، ولأن الإيلاج فيه سبب لنزول المني عادة مثل الإيلاج في السبيل المعتاد ، والسبب [ ص: 37 ] يقوم مقام المسبب خصوصا في موضع الاحتياط ، ولا غسل فيما دون الفرج بدون الإنزال ، وكذا الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل ، وكذا الاحتلام ; لأن الفعل فيما دون الفرج ، وفي البهيمة ليس نظير الفعل في فرج الإنسان في السببية ، وكذا الاحتلام فيعتبر في ذلك كله حقيقة الإنزال .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية