الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) الأحكام المتعلقة بالجنابة فما لا يباح للمحدث فعله من مس المصحف بدون غلافه ، ومس الدراهم التي عليها القرآن ، ونحو ذلك لا يباح للجنب من طريق الأولى لأن الجنابة أغلظ الحدثين ، ولو كانت الصحيفة على الأرض فأراد الجنب أن يكتب القرآن عليها روي عن أبي يوسف أنه لا بأس ، لأنه ليس بحامل للصحيفة ، والكتابة توجد حرفا حرفا .

                                                                                                                                وهذا ليس بقرآن وقال محمد أحب إلي أن لا يكتب ، لأن كتابة الحروف تجري مجرى القراءة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه لا يترك الكافر أن يمس المصحف لأن الكافر نجس فيجب تنزيه المصحف عن مسه .

                                                                                                                                وقال محمد لا بأس به إذا اغتسل ; لأن المانع هو الحدث وقد زال بالغسل ، وإنما بقي نجاسة اعتقاده ، وذلك في قلبه لا في يده ، ولا يباح للجنب قراءة القرآن عند عامة العلماء وقال مالك يباح له ذلك وجه قوله إن الجنابة أحد الحدثين فيعتبر بالحدث الآخر ، وأنه لا يمنع من القراءة كذا [ ص: 38 ] الجنابة .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روي أن { النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة } ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا تقرأ الحائض ، ولا الجنب شيئا من القرآن } ، وما ذكر من الاعتبار فاسد ، لأن أحد الحدثين حل الفم ، ولم يحل الآخر ، فلا يصح اعتبار أحدهما بالآخر ، ويستوي في الكراهة الآية التامة ، وما دون الآية عند عامة المشايخ وقال الطحاوي : لا بأس بقراءة ما دون الآية ، والصحيح قول العامة لما روينا من الحديثين من غير فصل بين القليل ، والكثير ، ولأن المنع من القراءة لتعظيم القرآن ، ومحافظة على حرمته ، وهذا لا يوجب الفصل بين القليل ، والكثير فيكره ذلك كله لكن إذا قصد التلاوة .

                                                                                                                                فأما إذا لم يقصد بأن قال : باسم الله لافتتاح الأعمال تبركا ، أو قال : الحمد لله للشكر لا بأس به لأنه من باب ذكر اسم الله تعالى ، والجنب غير ممنوع عن ذلك ، وتكره قراءة القرآن في المغتسل والمخرج ، لأن ذلك موضع الأنجاس .

                                                                                                                                فيجب تنزيه القرآن عن ذلك ، وأما في الحمام فتكره عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف وعند محمد لا تكره بناء على أن الماء المستعمل نجس عندهما فأشبه المخرج .

                                                                                                                                وعند محمد طاهر ، فلا تكره ولا يباح للجنب دخول المسجد ، وإن احتاج إلى ذلك يتيمم ، ويدخل سواء كان الدخول لقصد المكث أو للاجتياز عندنا وقال الشافعي : يباح له الدخول بدون التيمم إذا كان مجتازا ، واحتج بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا جنبا إلا عابري سبيل ، حتى تغتسلوا } قيل : المراد من الصلاة مكانها ، وهو المسجد كذا روي عن ابن مسعود ، وعابر سبيل هو المار يقال : عبر ، أي : مر نهي الجنب عن دخول المسجد بدون الاغتسال .

                                                                                                                                واستثنى عابري السبيل ، وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه فيباح له الدخول بدون الاغتسال ( ولنا ) ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال { سدوا الأبواب فإني لا أحلها لجنب ، ولا لحائض } ، والهاء كناية عن المساجد نفى الحل من غير فصل بين المجتاز ، وغيره .

                                                                                                                                وأما الآية فقد روي عن علي ، وابن عباس رضي الله عنهما أن المراد هو حقيقة الصلاة ، وأن عابر السبيل هو المسافر الجنب الذي لا يجد الماء فيتيمم فكان هذا إباحة الصلاة بالتيمم للجنب المسافر إذا لم يجد الماء ، وبه نقول : وهذا التأويل أولى لأن فيه بقاء اسم الصلاة على حالها فكان أولى ، أو يقع التعارض بين التأويلين ، فلا تبقى الآية حجة له ، ولا يطوف بالبيت ، وإن طاف جاز مع النقصان لما ذكرنا في المحدث إلا أن النقصان مع الجنابة أفحش لأنها أغلظ ، ويصح من الجنب أداء الصوم دون الصلاة ، لأن الطهارة شرط جواز الصلاة دون الصوم ، ويجب عليه كلاهما ، حتى يجب عليه قضاؤهما بالترك ، لأن الجنابة لا تمنع من وجوب الصوم بلا شك ، ويصح أداؤه مع الجنابة ، ولا يمنع من وجوب الصلاة أيضا .

                                                                                                                                وإن كان لا يصح أداؤها مع قيام الجنابة ، لأن في وسعه رفعها بالغسل قبل أن يتوضأ ، ولا بأس للجنب أن ينام ويعاود أهله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله { أينام أحدنا ، وهو جنب قال : نعم ، ويتوضأ وضوءه للصلاة } ، وله أن ينام قبل أن يتوضأ وضوءه للصلاة لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام ، وهو جنب من غير أن يمس ماء } ، ولأن الوضوء ليس بقربة بنفسه ، وإنما هو لأداء الصلاة ، وليس في النوم ذلك ، وإن أراد أن يأكل ، أو يشرب فينبغي أن يتمضمض ، ويغسل يديه .

                                                                                                                                ثم يأكل ، ويشرب ، لأن الجنابة حلت الفم فلو شرب قبل أن يتمضمض صار الماء مستعملا فيصير شاربا بالماء المستعمل ، ويده لا تخلو عن نجاسة فينبغي أن يغسلها ، ثم يأكل وهل يجب على الزوج ثمن ماء الاغتسال اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : لا يجب سواء كانت المرأة غنية أو فقيرة غير أنها إن كانت فقيرة يقال : للزوج إما أن تدعها حتى تنتقل إلى الماء ، أو تنقل الماء إليها وقال بعضهم : يجب ، وهو قول الفقيه أبي الليث رحمه الله ، لأنه لا بد لها منه فنزل منزلة الماء الذي للشرب ، وذلك عليه كذا هذا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية