الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان شرط بقاء هذا الحكم وما يبطل به وما لا يبطل فلن يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الأمر باليد ، فنقول وبالله التوفيق جعل الأمر باليد لا يخلو إما أن يكون منجزا ، وإما أن يكون معلقا بشرط ، وإما أن يكون مضافا إلى وقت والمنجز لا يخلو إما أن يكون مطلقا وإما أن يكون مؤقتا ، فإن كان مطلقا بأن قال : أمرك بيدك فشرط بقاء حكمه بقاء المجلس وهو مجلس علمها بالتفويض فما دامت في مجلسها فالأمر بيدها ; لأن جعل الأمر بيدها تمليك الطلاق منها لأنه جعل أمرها في الطلاق بيدها تتصرف فيه برأيها وتدبيرها كيف [ ص: 114 ] شاءت بمشيئة الإيثار وهذا معنى المالكية ، وهو التصرف عن مشيئة الإيثار .

                                                                                                                                والزوج يملك التطليق بنفسه فيملك تمليكه من غيره فصارت مالكة للطلاق بتمليك الزوج ، وجواب التمليك مقيد بالمجلس ; لأن الزوج يملك الخطاب ، وكل مخلوق خاطب غيره يطلب جواب خطابه في المجلس فيتقيد جواب التمليك بالمجلس كما في قبول البيع وغيره ، وسواء قصر المجلس أو طال ; لأن ساعات المجلس جعلت كساعة واحدة ; لأن اعتبار المجلس للحاجة إلى التأمل والتفكر وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات ولا ضابط له إلا المجلس فقدر بالمجلس ولهذا جعله الصحابة رضي الله عنهم للمخيرة فيبقى الأمر في يدها ما بقي المجلس فإن قامت عن مجلسها بطل ; لأن الزوج يطلب جواب التمليك في المجلس ، والقيام عن المجلس دليل الإعراض عن جواب التمليك فكان ردا للتمليك دلالة ; ولأن المالك لما طلب الجواب في المجلس لا يملك الجواب في غير المجلس ; لأنه ما ملكها في غيره وقد اختلف المجلس بالقيام فلم يكن في بقاء الأمر فائدة فيبطل ، وكذلك إذا وجد منها قول أو فعل يدل على إعراضها عن الجواب بأن دعت بطعام لتأكل أو أمرت وكيلها بشيء أو خاطبت إنسانا ببيع أو شراء أو كانت قائمة فركبت أو راكبة فانتقلت إلى دابة أخرى أو واقفة فسارت أو امتشطت أو اغتسلت أو مكنت زوجها حتى وطئها أو اشتغلت بالنوم ; لأن هذا كله دليل الإعراض عن الجواب وإن كانت سائرة أو كانا في محمل واحد فإن أجابت على الفور وإلا بطل خيارها ; لأن سير الدابة بتسيير الراكب ، وإن كانت سائرة فوقفت الدابة فهي على خيارها وإن كانت في سفينة فسارت لا يبطل خيارها ; لأن حكمها حكم البيت ; وكل ما يبطل به الخيار إذا كانت في البيت يبطل به إذا كانت في السفينة وما لا فلا فإن كانت قائمة فقعدت لم يبطل خيارها بخلاف ما إذا كانت قاعدة فقامت ; لأن القعود يجمع الرأي والقيام يفرقه فكان القعود دليل إرادة التأمل ، والقيام دليل إرادة الإعراض وكذلك إن كانت متكئة فقعدت لم يبطل خيارها لما قلنا فإن كانت قاعدة فاتكأت ففيه روايتان في رواية يبطل خيارها لأن المتكئ يقعد ليجتمع رأيه فأما القاعد فلا يتكئ لذلك ، وفي رواية أخرى لا يبطل ; لأن المتأمل ينتقل من الاتكاء إلى القعود مرة ومن القعود إلى الاتكاء أخرى ، وقد صار الأمر بيدها بيقين فلا يخرج بالشك ; فلو كانت قاعدة فاضطجعت يبطل خيارها في قول زفر .

                                                                                                                                وعن أبي يوسف روايتان روى الحسن بن زياد عنه أنه لا يبطل خيارها وروى الحسن بن أبي مالك عنه أنه يبطل كما قال زفر وإن ابتدأت الصلاة بطل خيارها فرضا كانت الصلاة أو نفلا أو واجبة ; لأن اشتغالها بالصلاة إعراض عن الجواب فإن خيرها وهي في الصلاة فأتمتها فإن كانت في صلاة الفرض أو الواجب كالوتر لا يبطل خيارها حتى تخرج من الصلاة ; لأنها مضطرة في الإتمام لكونها ممنوعة من الإفساد فلا يكون الإتمام دليل الإعراض وإن كانت في صلاة التطوع فإن سلمت على رأس الركعتين فهي على خيارها وإن زادت على ركعتين بطل خيارها ; لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة فكانت الزيادة على الشفع بمنزلة الشروع في الصلاة ابتداء ، ولو أخبرت وهي في الأربع قبل الظهر فأتمت ولم تسلم على رأس الركعتين اختلف فيه المشايخ قال بعضهم : يبطل خيارها كما في التطوع المطلق .

                                                                                                                                وقال بعضهم : لا يبطل وهو الصحيح ; لأنها في معنى الواجب فكانت من أولها إلى آخرها صلاة واحدة ، ولو أخذ الزوج بيدها فأقامها بطل خيارها ; لأنها إن قدرت على الامتناع فلم تمتنع فقد قامت باختيارها وهو دليل الإعراض .

                                                                                                                                وإن لم تقدر على أن تمتنع تقدر على أن تقول قبل الإقامة اخترت نفسي فلما لم تقل فقد أعرضت عن الجواب فإن أكلت طعاما يسيرا من غير أن تدعو بطعام أو شربت شرابا قليلا أو نامت قاعدة أو لبست ثوبا وهي قائمة أو لبست وهي قاعدة ولم تقم لم يبطل خيارها ; لأنها تحتاج إلى إحضار الشهود فتحتاج إلى اللبس لتستتر به فكان ذلك من ضرورات الخيار فلا يبطل به ، والأكل اليسير لا يدل على الإعراض وكذا النوم قاعدة من غير أن تشتغل به .

                                                                                                                                وكذا إذا سبحت أو قرأت شيئا قليلا لم يبطل خيارها لأن التسبيح اليسير والقراءة القليلة لا يدلان على الإعراض ; ولأن الإنسان لا يخلو عن التسبيح القليل والقراءة القليلة ، فلو جعل ذلك مبطلا للخيار لانسد باب التفويض وإن طال ذلك بطل الخيار ; لأن الطويل منه يكون دليل الإعراض ولا يكثر [ ص: 115 ] وجوده ، فإن قالت : ادع لي شهودا أشهدهم لم يبطل خيارها ; لأنها تحتاج إلى ذلك صيانة لاختيارها عن الجحود فكان ذلك من ضرورات الخيار فلم يكن دليل الإعراض ، وكذلك إذا قالت : ادع لي أبي أستشيره ; لأن هذا أمر يحتاج إلى المشورة ، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لما أراد تخيير نسائه قال لعائشة رضي الله عنها : إني أعرض عليك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أبويك } ، ولو كانت المشورة مبطلة للخيار لما ندبها إلى المشورة ، ولو قالت : اخترتك أو قالت : لا أختار الطلاق خرج الأمر من يدها ; لأنها صرحت برد التمليك وإنه يبطل بدلالة الرد فبالصريح أولى ، وسواء كان التمليك بكلمة كلما أو بدونها بأن قال لها : أمرك بيدك كلما شئت لما ذكرنا أن اختيارها زوجها رد التمليك فيرتد ما جعل إليها في جميع الأوقات هذا إذا كان التفويض مطلقا عن الوقت فأما إذا كان موقتا فإن أطلق الوقت بأن قال : أمرك بيدك إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى ما شئت أو حيثما شئت ، فلها الخيار في المجلس وغير المجلس ولا يتقيد بالمجلس حتى لو ردت الأمر لم يكن ردا .

                                                                                                                                ولو قامت من مجلسها أو أخذت في عمل آخر أو كلام آخر فلها أن تطلق نفسها ; لأنه ما ملكها الطلاق مطلقا ليكون طالبا جوابها في المجلس ، بل ملكها في أي وقت شاءت ، فلها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها إلا مرة واحدة لما نذكر فإن وقته بوقت خاص بأن قال : أمرك بيدك يوما أو شهرا أو سنة أو قال : اليوم أو الشهر أو السنة أو قال : هذا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة لا يتقيد بالمجلس ولها الأمر في الوقت كله تختار نفسها فيما شاءت منه ، ولو قامت من مجلسها أو تشاغلت بغير الجواب لا يبطل خيارها ما بقي الوقت بلا خلاف ; لأنه فوض الأمر إليها في جميع الوقت المذكور فيبقى ما بقي الوقت ; ولأنه لو بطل الأمر بإعراضها لم يكن للتوقيت فائدة ، وكان الوقت وغير الوقت سواء غير أنه إن ذكر اليوم أو الشهر أو السنة منكرا فلها الأمر من الساعة التي تكلم فيها إلى مثلها من الغد والشهر والسنة ; لأن ذلك يقع على يوم تام وشهر تام وسنة تامة ولا يتم إلا بما قلنا .

                                                                                                                                ويكون الشهر ههنا بالأيام ; لأن التفويض إذا وجد في بعض الشهر لا يمكن اعتبار الأهلة فيعتبر بالأيام وإن ذكر ذلك معرفا فلها الخيار في بقية اليوم وفي بقية الشهر وفي بقية السنة ; لأن المعرف منه يقع على الباقي ويعتبر الشهر ههنا بالهلال ; لأن الأصل في الشهر هو الهلال ، والعدول عنه إلى غيره لمكان الضرورة ، ولا ضرورة ههنا ، ولو اختارت نفسها في الوقت مرة ليس لها أن تختار مرة أخرى ; لأن اللفظ يقتضي الوقت ولا يقتضي التكرار ، ولو قالت : اخترت زوجي أو قالت : لا أختار الطلاق ذكر في بعض المواضع أن على قول أبي حنيفة ومحمد يخرج الأمر من يدها في جميع الوقت حتى لا تملك أن تختار نفسها بعد ذلك وإن بقي الوقت .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف يبطل خيارها في ذلك المجلس ولا يبطل في مجلس آخر ، وذكر في بعضها الاختلاف على العكس من ذلك .

                                                                                                                                وجه قول من قال : إنه لا يخرج الأمر من يدها أنه جعل الأمر بيدها في جميع الوقت ، فإعراضها في بعض الوقت لا يبطل خيارها في الجميع كما إذا قامت من مجلسها أو اشتغلت بأمر يدل على الإعراض .

                                                                                                                                وجه قول من يقول إنه يخرج الأمر من يدها أن قولها : اخترت زوجي رد للتمليك .

                                                                                                                                والتمليك تمليك واحد فيبطل برد واحد كتمليك البيع بخلاف القيام عن المجلس ; لأنه ليس برد حقيقة ، بل هو امتناع من الجواب إلا أنه جعل ردا في التفويض المطلق من الوقت ضرورة أن الزوج طلب الجواب في المجلس ، والمجلس يبطل بالقيام فلو بقي الأمر بقي خاليا عن الفائدة فبطل ضرورة عدم الفائدة في البقاء ، وهذه الضرورة منعدمة ههنا ; لأن الزوج طلب منها الجواب في جميع الوقت لا في المجلس فكان في بقاء الأمر بعد القيام عن المجلس فائدة فيبقى ; ولأن الزوج خيرها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها ولو اختارت نفسها يبطل خيارها في جميع المدة فكذا إذا اختارت زوجها وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه إذا قال : أمرك بيدك هذا اليوم كان على مجلسها ; لأن في الفصل الأول جعل اليوم كله ظرفا للأمر باليد كما لو قال : لله علي أن أصوم عمري أنه يلزمه صوم جميع عمره ; لأنه جعل عمره ظرفا للصوم ، فإذا صار اليوم كله ظرفا للأمر باليد فلا يتقيد بالمجلس وفي الفصل الثاني جعل جزءا من اليوم ظرفا كما لو قال : لله علي أن أصوم في عمري أنه لا يلزمه إلا صوم يوم واحد ; لأنه جعل جزءا من عمره ظرفا للصوم ، وإذا صار جزءا من اليوم ظرفا للأمر وليس جزء أولى من جزء فيختص [ ص: 116 ] بالمجلس ، ولو قال : أمرك بيدك إلى رأس الشهر صار الأمر بيدها إلى رأس الشهر ، ولا يبطل بالقيام عن المجلس والاشتغال بترك الجواب وهل يبطل باختيارها زوجها ؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية