الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                اجتمع سببا الوجوب وهما : التلاوة ، والسماع بأن تلا السجدة ثم سمعها ، أو سمعها ثم تلاها أو تكرر أحدهما فنقول : الأصل أن السجدة لا يتكرر وجوبها إلا بأحد أمور ثلاثة : إما اختلاف المجلس ، أو التلاوة ، أو السماع حتى أن من تلا آية واحدة مرارا في مجلس واحد تكفيه سجدة واحدة ، والأصل فيه ما روي أن جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمع ويتلقن ثم يقرأ على أصحابه وكان لا يسجد إلا مرة واحدة وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي معلم الحسن والحسين رضي الله عنهم أنه كان يعلم الآية مرارا وكان لا يزيد على سجدة واحدة والظاهر أن عليا رضي الله عنه كان عالما بذلك ولم ينكر عليه .

                                                                                                                                وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يكرر آية السجدة حين كان يعلم الصبيان وكان لا يسجد إلا مرة واحدة ولأن المجلس الواحد جامع للكلمات المتفرقة كما في الإيجاب والقبول ولأن في إيجاب السجدة في كل مرة إيقاع في الحرج لكون المعلمين مبتلين بتكرار الآية لتعليم الصبيان والحرج منفي بنص الكتاب ولأن السجدة متعلقة بالتلاوة والمرة الأولى هي الحاصلة للتلاوة فأما التكرار فلم يكن لحق التلاوة بل للتحفظ أو للتدبر والتأمل في ذلك ، وكل ذلك من عمل القلب ولا تعلق لوجوب السجدة به فجعل الإجراء على اللسان الذي هو من ضرورة ما هو فعل القلب أو وسيلة إليه من أفعاله فالتحق بما هو فعل القلب وذلك ليس بسبب ، كذا علل الشيخ أبو منصور .

                                                                                                                                ( وأما ) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذكره أو سمع ذكره في مجلس واحد مرارا فلم يذكر في الكتب وذهب المتقدمون من أصحابنا إلى أنه يكفيه مرة واحدة قياسا على السجدة وقال بعض المتأخرين يصلى عليه في كل مرة لقوله صلى الله عليه وسلم { لا تجفوني بعد موتي فقيل له : وكيف نجفوك يا رسول الله ؟ فقال : أن أذكر في موضع فلا يصلى علي } وبه تبين أنه حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوق العباد لا تتداخل ، وعلى هذا اختلفوا في تشميت العاطس إن من عطس وحمد الله تعالى في مجلس واحد مرارا فقال بعضهم : ينبغي للسامع أن يشمت في كل مرة ; لأنه حق العاطس والأصح أنه إذا زاد على الثلاث لا يشمته لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للعاطس في مجلسه بعد الثلاث : قم فانتثر فإنك مزكوم .

                                                                                                                                ( ثم ) لا فرق ههنا بين ما إذا تلا مرارا ثم سجد وبين ما إذا تلا وسجد ثم تلا بعد ذلك مرارا في مجلس واحد حتى لا يلزمه سجدة أخرى فرق بين هذا وبين ما إذا زنى مرارا أنه لا يحد إلا مرة واحدة ولو زنى مرة ثم حد ثم زنى مرة أخرى يحد ثانيا وكذا ثالثا ورابعا ، والفرق أن هناك تكرر السبب لمساواة كل فعل الأول في المأثم ، والقبح وفساد الفراش ، وكل معنى صار به الأول سببا إلا أنه لما أقيم عليه الحد جعل ذلك حكما لكل سبب فجعل بكماله حكما لهذا وحكما لذاك وجعل كأن كل سبب ليس معه غيره في حق نفسه لحصول ما شرع له الحد وهو الزجر عن المعاودة في المستقبل ، فإذا وجد الزنا بعد ذلك انعقد سببا كالذي تقدم فلا بد من وجود حكمه بخلاف ما نحن فيه ; لأن ههنا السبب هو التلاوة والمرة الأولى هي الحاصلة بحق التلاوة على ما مر فلم يتكرر السبب وهذا المعنى لا يتبدل بتخلل السجدة بينهما وعدم التخلل لحصول الثانية بحق التأمل والتحفظ في الحالين .

                                                                                                                                وكذا السامع لتلك التلاوات المتكررة لا يلزمه إلا بالمرة الأولى ; لأن ما وراءها في حقه جعل غير سبب بل تبعا للتأمل والحفظ ; لأنه في حقه يفيد المعنيين جميعا أعني الإعانة على الحفظ والتدبر بخلاف ما إذا سمع إنسان آخر المرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة وذلك في حقه أول ما سمع حيث تلزمه السجدة ; لأن ذلك في حقه سماع التلاوة ; لأن كل مرة تلاوة حقيقة إلا أن الحقيقة جعلت ساقطة [ ص: 182 ] في حق من تكررت في حقه ففي حق من لم تتكرر بقيت على حقيقتها .

                                                                                                                                وبخلاف ما إذا قرأ آية واحدة في مجالس مختلفة ; لأن هناك النصوص منعدمة والجامع وهو المجلس غير ثابت والحرج منفي ومعنى التفكر والتدبر زائل ; لأنها في المجلس الآخر حصلت بحق التلاوة لينال ثوابها في ذلك المجلس ، وبخلاف ما إذا قرأ آيات متفرقة في مجلس واحد لزوال هذه المعاني أيضا .

                                                                                                                                أما النصوص فلا تشكل وكذا المعنى الجامع ; لأن المجلس لا يجعل الكلمات المختلفة الجنس بمنزلة كلمة واحدة كمن أقر لإنسان بألف درهم والآخر بمائة دينار ولعبده بالعتق في مجلس واحد لا يجعل المجلس الكل إقرارا واحدا ، وكذا الحرج منتف ، وكذا التلاوة الثانية لا تكون للتدبر في الأولى والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية