الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الجماعة فالكلام في الجماعة في مواضع ، في بيان كونها شرطا للجمعة ، وفي بيان كيفية هذا الشرط ، وفي بيان مقداره ، وفي بيان صفة القوم الذين تنعقد بهم الجمعة .

                                                                                                                                أما الأول فالدليل على أنها شرط أن هذه الصلاة تسمى جمعة فلا بد من لزوم معنى الجمعة فيه اعتبارا للمعنى الذي أخذ اللفظ منه من حيث اللغة كما في الصرف والسلم والرهن ونحو ذلك ; ولأن ترك الظهر ثبت بهذه الشريطة على ما مر ولهذا لم يؤد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة إلا بجماعة وعليه إجماع العلماء .

                                                                                                                                وأما بيان كيفية هذا الشرط فنقول : لا خلاف في أن الجماعة شرط لانعقاد الجمعة حتى لا تنعقد الجمعة بدونها حتى إن الإمام إذا فرغ من الخطبة ثم نفر الناس عنه إلا واحدا يصلي بهم في الظهر دون الجمعة ، وكذا لو نفروا قبل أن يخطب الإمام فخطب الإمام وحده ثم حضروا فصلى بهم الجمعة لا يجوز ; لأن الجماعة كما هي شرط انعقاد الجمعة حال الشروع في الصلاة فهي شرط حال سماع الخطبة ; لأن الخطبة بمنزلة شفع من الصلاة ، قالت عائشة رضي الله عنها إنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة فتشترط الجماعة حال سماعها كما تشترط حال الشروع في الصلاة ، واختلفوا في أنها هل هي شرط بقائها منعقدة إلى آخر الصلاة ؟ قال أصحابنا الثلاثة : إنها ليست بشرط ، وقال زفر : إنها شرط للانعقاد والبقاء جميعا فيشترط دوامها من أول الصلاة إلى آخرها كالطهارة وستر العورة واستقبال القبلة ونحوها ، حتى إنهم لو نفروا بعد ما قيد الركعة بالسجدة له أن يتم الجمعة عندنا ، وعند زفر إذا نفروا قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد فسدت الجمعة وعليه أن يستقبل الظهر .

                                                                                                                                وجه قوله أن الجماعة شرط لهذه الصلاة فكانت شرط الانعقاد والبقاء كسائر الشروط من الوقت وستر العورة واستقبال القبلة وهذا ; لأن الأصل فيما جعل شرطا للعبادة أن يكون شرطا لجميع أجزائها لتساوي أجزاء العبادة إلا إذا كان شرطا لا يمكن قرانه لجميع الأجزاء لتعذر ذلك أو لما فيه من الحرج كالنية فتجعل شرطا لانعقادها وهنا لا حرج في اشتراط دوام الجماعة إلى آخر الصلاة في حق الإمام ; لأن فوات هذا الشرط قبل تمام الصلاة في غاية الندرة فكان شرط الأداء كما هو شرط الانعقاد ، ولهذا شرط أبو حنيفة دوام هذا الشرط ركعة كاملة وذا لا يشترط في شرط الانعقاد بخلاف المقتدي ; لأن استدامة هذا الشرط في حق المقتدي يوقعه في الحرج ; لأنه كثيرا ما يسبق بركعة أو ركعتين فجعل في حقه شرط الانعقاد لا غير وجه قول أصحابنا الثلاثة أن المعنى يقتضي أن لا تكون الجماعة شرطا أصلا لا شرط الانعقاد ولا شرط البقاء ; لأن الأصل أن يكون شرط العبادة شيئا يدخل تحت قدرة المكلف تحصيله ليكون التكليف بقدر الوسع إلا إذا كان شرطا هو كائن لا محالة كالوقت ; لأنه إذا لم يكن كائنا لا محالة لم يكن للمكلف بد من تحصيله ليتمكن من الأداء ، ولا ولاية لكل مكلف على غيره فلم يكن قادرا على تحصيل شرط الجماعة فكان ينبغي أن لا تكون الجماعة شرطا أصلا إلا أنا جعلناها شرطا بالشرع فتجعل شرطا بقدر ما يحصل قبول حكم الشرع وذلك يحصل بجعله شرط الانعقاد فلا حاجة إلى جعله شرط البقاء وصار كالنية بل أولى ; لأن في وسع المكلف تحصيل النية لكن لما كان في استدامتها حرج جعل شرط الانعقاد دون البقاء دفعا للحرج فالشرط الذي لا يدخل تحت ولاية العباد أصلا أولى أن لا يجعل شرطا لبقاء [ ص: 267 ] فجعل شرط الانعقاد ولهذا كان من شرائط الانعقاد دون البقاء في حق المقتدي بالإجماع فكذا في حق الإمام ثم اختلف أصحابنا الثلاثة فيما بينهم فقال أبو حنيفة : إن الجماعة في حق الإمام شرط انعقاد الأداء لا شرط انعقاد التحريمة ، وقال أبو يوسف ومحمد : إنها شرط انعقاد التحريمة حتى إنهم لو نفروا بعد التحريمة قبل تقييد الركعة بسجدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر عنده كما قال زفر وعندهما يتم الجمعة .

                                                                                                                                وجه قولهما أن الجماعة شرط انعقاد التحريمة في حق المقتدي فكذا في حق الإمام والجامع أن تحريمة الجمعة إذا صحت صح بناء الجمعة عليها ولهذا لو أدركه إنسان في التشهد صلى الجمعة ركعتين عنده وهو قول أبي يوسف إلا أن محمدا ترك القياس هناك بالنص لما يذكر ، ولأبي حنيفة أن الجماعة في حق الإمام لو جعلت شرط انعقاد التحريمة لأدى إلى الحرج ; لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون مشاركة الجماعة إياه فيها ، وذا لا يحصل إلا وأن تقع تكبيراتهم مقارنة لتكبيرة الإمام ، وأنه مما يتعذر مراعاته ، وبالإجماع ليس بشرط فإنهم لو كانوا حضورا وكبر الإمام ثم كبروا صح تكبيره وصار شارعا في الصلاة وصحت مشاركتهم إياه فلم تجعل شرط انعقاد التحريمة لعدم الإمكان فجعلت شرط انعقاد الأداء بخلاف القوم فإنه أمكن أن تجعل في حقهم شرط انعقاد التحريمة ; لأنه تحصل مشاركتهم إياه في التحريمة لا محالة وإن سبقهم الإمام بالتكبير ، وإن ثبت أن الجماعة في حق الإمام شرط انعقاد الأداء لا شرط انعقاد التحريمة ، فانعقاد الأداء بتقييد الركعة بسجدة ; لأن الأداء فعل والحاجة إلى كون الفعل أداء للصلاة ، وفعل الصلاة هو القيام والقراءة والركوع والسجود ، ولهذا لو حلف لا يصلي فما لم يقيد الركعة بالسجدة لا يحنث ، فإذا لم يقيد الركعة بالسجدة لم يوجد الأداء فلم تنعقد فشرط دوام مشاركة الجماعة الإمام إلى الفراغ عن الأداء .

                                                                                                                                ولو افتتح الجمعة وخلفه قوم ونفروا منه وبقي الإمام وحده فسدت صلاته ويستقبل الظهر ; لأن الجماعة شرط انعقاد الجمعة ولم توجد ، ولو جاء قوم آخرون فوقفوا خلفه ثم نفر الأولون فإن الإمام يمضي على صلاته لوجود الشرط هذا الذي ذكرنا اشتراط المشاركة في حق الإمام .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية