الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 47 ] ذكر فتح سمرقند

فلما قبض قتيبة صلح خوارزمشاه قام إليه المجشر بن مزاحم السلمي . فقال له سرا : إن أردت الصغد يوما من الدهر فالآن ، فإنهم آمنون من أن يأتيهم عامل هذا ، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام . قال : أشار عليك بهذا أحد ؟ قال : لا . قال : فسمعه منك أحد ؟ قال : لا . قال : والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك .

فلما كان الغد أمر أخاه عبد الرحمن فسار في الفرسان والرماة ، وقدم الأثقال إلى مرو ، فسار يومه ، فلما أمسى كتب إليه قتيبة : إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو ، وسر بالفرسان والرماة نحو الصغد ، واكتم الأخبار ، فإني في الأثر . ففعل عبد الرحمن ما أمره ، وخطب قتيبة الناس وقال لهم : إن الصغد شاغرة برجلها ، وقد نقضوا العهد الذي بيننا وصنعوا ما بلغكم ، وإني أرجو أن يكون خوارزم والصغد كقريظة والنضير . ثم سار فأتى الصغد فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع ، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى ، فقاتلوه شهرا من وجه واحد وهم محصورون .

وخاف أهل الصغد طول الحصار ، فكتبوا إلى الملك الشاش وخاقان وأخشاد فرغانة : إن العرب [ إن ] ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا به ، فانظروا لأنفسكم ومهما كان عندكم من قوة فابذلوها . فنظروا ، وقالوا : إنما نؤتى من سفلتنا ، فإنهم لا يجدون كوجدنا . فانتخبوا من أولاد الملوك وأهل النجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال ، وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة فيبيتوه ، فإنه مشغول عنه بحصار سمرقند ، وولوا عليه ابنا لخاقان ، فساروا .

وبلغ قتيبة الخبر ، فانتخب من عسكره أربعمائة ، وقيل : ستمائة من أهل النجدة والشجاعة وأعلمهم الخبر ، وأمرهم بالمسير إلى عدوهم ، فساروا وعليهم صالح بن مسلم ، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم ، فجعل صالح له كمينين ، فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوهم ، فلما رأوا صالحا حملوا عليه ، فلما اقتتلوا شد الكمينان عن يمين وشمال ، فلم ير قوم كانوا أشد من أولئك . قال بعضهم : إنا لنقاتلهم إذ رأيت تحت الليل قتيبة وقد جاء سرا ، فضربت ضربة أعجبتني . فقلت : كيف ترى بأمي وأبي ؟ قال : اسكت فض الله فاك . قال : فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد ، وحوينا أسلابهم وسلاحهم ، فاحتززنا رءوسهم وأسرنا منهم أسرى ، فسألناهم عمن قتلنا [ ص: 48 ] فقالوا : ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيما أو بطلا ، كان الرجل يعد بمائة رجل ، وكتبنا أسماءهم على آذانهم ، ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا ، فلم يأت أحد بمثل ما جئنا به من القتلى والأسرى والخيل ومناطق الذهب والسلاح ، قال : وأكرمني قتيبة وأكرم معي جماعة ، وظننت أنه رأى منهم مثل الذي رأى مني .

ولما رأى الصغد ذلك انكسروا ، ونصب قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وثلم ثلمة ، فقام عليها رجل شتم قتيبة ، فرماه بعض الرماة فقتله ، فأعطاه قتيبة عشرة آلاف . وسمع بعض المسلمين قتيبة وهو يقول كأنما يناجي نفسه : حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان ؟ أما والله [ لئن ] أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية . فانصرف ذلك الرجل فقال لأصحابه : كم من نفس تموت غدا ! وأخبر الخبر .

فلما أصبح قتيبة أمر الناس بالجد في القتال ، فقاتلوهم واشتد القتال ، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة ، فجعلوا الترسة على وجوههم وحملوا ، فبلغوها ووقفوا عليها ، ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا . فأرسل الصغد إلى قتيبة فقالوا له : انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غدا . فقال قتيبة : لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة ، وقيل : بل قال قتيبة : جزع العبيد ، انصرفوا على ظفركم ، فانصرفوا فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام ، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس ، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل ، فيبني فيها مسجدا ، ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج .

فلما تم الصلح وأخلوا المدينة وبنوا المسجد دخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم ، فدخل المسجد فصلى فيه وخطب ، وأكل طعاما ثم أرسل إلى الصغد : من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ فإني لست خارجا منها ولست آخذ منكم إلا ما صالحتكم عليه ، غير أن الجند يقيمون فيها .

وقيل : إنه شرط عليهم في الصلح مائة ألف فارس ، وبيوت النيران وحلية الأصنام ، فقبض ذلك ، وأتي بالأصنام فكانت كالقصر العظيم ، وأخذ ما عليها ، وأمر بها فأحرقت . فجاءه غوزك فقال : إن شكرك علي واجب ، لا تتعرض لهذه الأصنام ، فإن منها أصناما من أحرقها هلك . فقال قتيبة : أنا أحرقها بيدي ، فدعا بالنار فكبر ، ثم أشعلها فاحترقت ، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال .

وأصاب بالصغد جارية من ولد يزدجرد ، فأرسلها إلى الحجاج ، فأرسلها الحجاج [ ص: 49 ] إلى الوليد ، فولدت له يزيد بن الوليد .

وأمر غوزك بالانتقال عنها فانتقل .

وقيل : إن أهل سمرقند خرجوا على المسلمين وهم يقاتلونهم يوم فتحها ، وقد أمر قتيبة بسرير فأبرز وقعد عليه ، فطاعنوهم حتى جازوا قتيبة وإنه لمحتب بسيفه ما حل حبوته ، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب ، فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم ، وقتل من المشركين عدد كثير ، ودخلوا المدينة فصالحوهم ، وصنع غوزك طعاما ودعا قتيبة ، فأتاه في عدة من أصحابه ، فلما بعد استوهب منه سمرقند وقال للملك : انتقل عنها ، فلم نجد بدا من طاعته ، وتلا قتيبة قوله تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى ، وثمود فما أبقى .

وحكي عن الذي أرسله قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند قال : فأرسلني الحجاج إلى الوليد ، فقدمت دمشق قبل طلوع الفجر ، فدخلت المسجد ، فإذا إلى جنبي رجل ضرير ، فسألني : من أين أنت ؟ فقلت : من خراسان ، وأخبرته خبر سمرقند . فقال : والذي بعث محمدا بالحق ما افتتحتموها إلا غدرا ! وإنكم يا أهل خراسان الذين تسلبون بني أمية ملكهم ، ثم تنقضون دمشق حجرا حجرا . فلما فتح قتيبة سمرقند قيل : [ إن ] هذا لأعدى العيرين ، لأنه فتح سمرقند وخوارزم في عام واحد ، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل : عادى عيرين . فلما فتحها قتيبة دعا نهار بن توسعة فقال : يا نهار أين قولك :


ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ومات الندى والجود بعد المهلب     أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه
وقد غيبا عن كل شرق ومغرب

أفغزو هذا ؟ قال : لا ، هذا أحسن ، وأنا الذي أقول :


وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا     ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
[ ص: 50 ] أعم لأهل الشرك قتلا بسيفه     وأكثر فينا مقسما بعد مقسم

قال : وقال الشعراء في ذلك ، فقال الكميت من قصيدة :

(

كانت سمرقند أحقابا يمانية     فاليوم تنسبها قيسية مضر

وقال كعب الأشقري ، وقيل رجل من جعفى ) :


كل يوم يحوي قتيبة نهبا     ويزيد الأموال مالا جديدا
باهلي قد ألبس التاج حتى     شاب منه مفارق كن سودا
دوخ الصغد بالكتائب حتى     ترك الصغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه     وأب موجع يبكي الوليدا



ثم رجع قتيبة إلى مرو ، وكان أهل خراسان يقولون : إن قتيبة غدر بأهل سمرقند فملكها غدرا .

وكان عامله على خوارزم إياس بن عبد الله على حربها ، وكان ضعيفا ، وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم . فاستضعف أهل خوارزم إياسا ، فجمعوا له ، فكتب عبيد الله إلى قتيبة ، فبعث قتيبة أخاه عبد الله عاملا وأمره أن يضرب إياسا وحيان النبطي مائة مائة ويحلقهما . فلما قرب عبد الله من خوارزم أرسل إلى إياس فأنذره ، فتنحى ، وقدم عبد الله وأخذ حيان فضربه وحلقه . ثم وجه قتيبة الجنود إلى خوارزم مع المغيرة بن عبد الله ، فبلغهم ذلك ، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزمشاه وقالوا : لا نعينك ، فهرب إلى بلاد الترك ، وقدم المغيرة فقتل وسبى ، فصالحه الباقون على الجزية ، وقدم على قتيبة فاستعمله على نيسابور .

التالي السابق


الخدمات العلمية