الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ظهور عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر

وفي هذه السنة ظهر عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بالكوفة ودعا إلى نفسه .

وكان سبب ذلك أنه قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إلى الكوفة ، فأكرمه وأجازه ، وأجرى عليه وعلى إخوته كل يوم ثلاثمائة درهم ، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد ، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد وبعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك ، فلما بلغ خبر بيعتهما عبد الله بن عمر بالكوفة بايع الناس ، وزاد في العطاء ، وكتب ببيعتهما إلى الآفاق ، فجاءته البيعة ، ثم بلغه امتناع مروان بن محمد من البيعة ومسيره إليهما إلى الشام ، فحبس عبد الله بن معاوية عنده وزاده فيما كان يجري عليه [ ص: 334 ] وأعده لمروان بن محمد إن هو ظفر بإبراهيم بن الوليد ليبايع له ويقاتل به مروان ، فماج الناس .

وورد مروان الشام وظفر بإبراهيم ، فانهزم إسماعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة مسرعا ، وافتعل كتابا على لسان إبراهيم بإمرة الكوفة ، وجمع اليمانية وأعلمهم ذلك ، فأجابوه ، وامتنع عبد الله بن عمر عليه وقاتله .

فلما رأى الأمر كذلك خاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل فقال لأصحابه : إني أكره سفك الدماء فكفوا أيديكم ، فكفوا . وظهر أمر إبراهيم وهربه ، ووقعت العصبية بين الناس ، وكان سببها أن عبد الله بن عمر كان أعطى مضر وربيعة عطايا كثيرة ، ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي وعثمان بن الخيبري من تيم اللات بن ثعلبة شيئا ، وهما من ربيعة ، فكانا مغضبين ، وغضب لهما ثمامة بن حوشب بن رويم الشيباني ، وخرجوا من عند عبد الله بن عمر وهو بالحيرة إلى الكوفة فنادوا : يا آل ربيعة ! فاجتمعت ربيعة وتنمروا .

وبلغ الخبر عبد الله بن عمر فأرسل أخاه عاصما ، فأتاهم وهم بدير هند ، فألقى نفسه بينهم وقال : هذه يدي لكم فاحكموا . فاستحيوا ورجعوا وعظموا عاصما وشكروه . فلما كان المساء أرسل عبد الله بن عمر إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري بمائة ألف ، فقسمها في قومه بني همام بن مرة بن ذهل الشيباني ، وإلى ثمامة بن حوشب بمائة ألف قسمها في قومه ، وأرسل إلى جعفر بن نافع بمال ، وإلى عثمان بن الخيبري بمال .

فلما رأت الشيعة ضعف عبد الله بن عمر طمعوا فيه ودعوا إلى عبد الله بن معاوية ، واجتمعوا في المسجد وثاروا ، وأتوا عبد الله بن معاوية وأخرجوه من داره وأدخلوه القصر ، ومنعوا عاصم بن عمر عن القصر ، فلحق بأخيه بالحيرة ، وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه ، فيهم : عمر بن الغضبان ، ومنصور بن جمهور ، وإسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد ، وأقام أياما يبايعه الناس ، وأتته البيعة من المدائن وفم النيل ، واجتمع إليه الناس ، فخرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة ، فقيل لابن عمر : قد أقبل ابن معاوية [ ص: 335 ] في الخلق ، فأطرق مليا ، وأتاه رئيس خبازيه فأعلمه بإدراك الطعام ، فأمره بإحضاره ، فأحضره ، فأكل هو ومن معه وهو غير مكترث ، والناس يتوقعون أن يهجم عليهم ابن معاوية ، وفرغ من طعامه وأخرج المال ففرقه في قواده ، ثم دعا مولى له كان يتبرك به ويتفاءل باسمه ، كان اسمه : إما ميمونا ، وإما رباحا ، أو فتحا ، أو اسما يتبرك به ، فأعطاه اللواء وقال له : امض به إلى موضع كذا فاركزه وادع أصحابك وأقم حتى آتيك . ففعل .

وخرج عبد الله فإذا الأرض بيضاء من أصحاب ابن معاوية ، فأمر ابن عمر مناديا فنادى : من جاء برأس فله خمسمائة . فأتي برءوس كثيرة وهو يعطي ما ضمن .

وبرز رجل من أهل الشام ، فبرز إليه القاسم بن عبد الغفار العجلي ، فسأله الشامي فعرفه فقال : قد ظننت أنه لا يخرج إلي رجل من بكر بن وائل ، والله ما أريد قتالك ولكن أحببت أن ألقي إليك حديثا ، أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن ، لا إسماعيل ولا منصور ولا غيرهما ، إلا وقد كاتب ابن عمر وكاتبته مضر ، وما أرى لكم يا ربيعة كتابا ولا رسولا ، وأنا رجل من قيس ، فإن أردتم الكتاب أبلغته ونحن غدا بإزائكم فإنهم اليوم لا يقاتلونكم .

فبلغ الخبر ابن معاوية فأخبره عمر بن الغضبان ، فأشار عليه أن يستوثق من إسماعيل ومنصور وغيرهما ، فلم يفعل .

وأصبح الناس من الغد غادين على القتال ، فحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا ، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة ، فانهزم أصحاب ابن معاوية إلى الكوفة ، وابن معاوية معهم ، فدخلوا القصر ، وبقي من بالميسرة من ربيعة ومضر ومن بإزائهم من أصحاب ابن عمر ، فقال لعمر بن الغضبان : ما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بكم ، فانصرفوا . فقال ابن الغضبان : لا أبرح حتى أقتل . فأخذ أصحابه بعنان دابته فأدخلوه الكوفة ، فلما أمسوا قال لهم ابن معاوية : يا معشر ربيعة ، قد رأيتم ما صنع الناس بنا ، وقد أعلقنا دماءنا في أعناقكم ، فإن قاتلتم قاتلنا معكم ، وإن كنتم ترون الناس يخذلوننا وإياكم فخذوا لنا ولكم أمانا . فقال له عمر بن الغضبان : ما نقاتل معكم وما نأخذ لكم أمانا كما نأخذ لأنفسنا . فأقاموا في القصر والزيدية على أفواه السكك يقاتلون أصحاب ابن عمر أياما .

ثم إن ربيعة أخذت أمانا لابن معاوية ولأنفسهم وللزيدية ليذهبوا حيث شاءوا ، وسار [ ص: 336 ] ابن معاوية من الكوفة فنزل المدائن ، فأتاه قوم من أهل الكوفة ، فخرج بهم فغلب على حلوان والجبال وهمدان وأصبهان والري ، وخرج إليه عبيد أهل الكوفة . وكان شاعرا مجيدا ، فمن قوله :

ولا تركبن الصنيع الذي تلوم أخاك على مثله     ولا يعجبنك قول امرئ
يخالف ما قال في فعله



التالي السابق


الخدمات العلمية