الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، ثنا سعيد بن الحكم ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا أسير ، في بعض سياحتي ، فإذا أنا بصوت حزين كئيب موجع القلب - أسمع الصوت ولا أرى الشخص - وهو يقول : سبحان مفني الدهور ، سبحان مخرب الدنيا ، سبحان مميت القلوب ، سبحان باعث من في القبور . فاتبعت الصوت فإذا أنا بنقب ، وإذا الصوت خارج من النقب وهو يقول : سبحان من لا يسع الخلق إلا سره ، سبحانك ما ألطفك بمن خالفك ، وأوفاك بعهدك ، سبحانك ما أحلمك عمن عصاك وخالف أمرك . ثم قال : سيدي بحلمك نطقت ، وبفضلك تكلمت ، وما أنا والكلام بين يديه بما لا يستأهله قدري ، فيا إله من مضى قبلي ويا إله من يكون بعدي ، بالصالحين فألحقني ، ولأعمالهم فوفقني . ثم قال : أين الزهاد والعباد ؟ أين الذين شدوا مطاياهم إلى منازل معروفة ، وأعمال موصوفة ، نزل بهم الزمان فأبلاهم ، وحل بهم البلاء فأفناهم ، فهل أنتظر إلا مثل الذي حل بهم . ثم أقبل على ما كان فيه . فقلت : رجل عزفت نفسه عن كلام الناس ، فانصرفت وتركته باكيا " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " أشد المريدين نفاقا من لحظ لحظة أو نطق بكلمة بلا حجة استبانها فيما بينه وبين ربه ، ثم سئل عن الحجة فعبر عن نفسه بحجة كان قبل [ ص: 361 ] الفعل في الوقت غافلا " .

              قال : وسمعت ذا النون ، وسأله رجل : أي الأحوال أغلب على قلب العارف السرور والفرح أم الحزن والهموم ؟ فقال : " أوصلنا الله وإياكم إلى جميل ما نأمله منه ، والعلم في هذا عندي - والله أعلم - أنه ليس هناك حال يشار إليه دون حال ، ولا سبب دون سبب ، وأنا أضرب لك مثلا : اعلم رحمك الله أن مثل العارف في هذه الدار مثل رجل قد توج بتاج الكرامة وأجلس على سرير في بيت ، ثم علق من فوق رأسه سيف بشعره ، وأرسل على باب البيت أسدان ضاريان ، فالملك يشرف كل ساعة بعد ساعة على الهلاك والعطب فأنى له بالسرور والفرح على التمام ؟ وبالله التوفيق " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : - وسئل عن الآفة التي يخدع بها المريد عن الله - ، فقال : " يريه الألطاف والكرامات والآيات . قيل له : يا أبا الفيض : فبم يخدع قبل وصوله إلى هذه الدرجة ، قال : بوطء الأعقاب ، وتعظيم الناس له ، والتوسع في المجالس ، وكثرة الأتباع فنعوذ بالله من مكره وخدعه " .

              قال : وسمعت ذا النون وسئل : ما أساس قسوة القلب للمريد ؟ فقال : " ببحثه عن علوم رضى نفسه بتعليمها دون استعمالها والوصول إلى حقائقها " .

              وقال : " لو أن الخلق عرفوا ذل أهل المعرفة في أنفسهم لحثوا التراب على رءوسهم وفي وجوههم . فقال رجل كان حاضرا في المجلس : رجل مؤيد . فذكرت لطاهر المقدسي فقال : سقى الله أبا الفيض ، حقا ما قال ، ولكني أقول : لو أبدى الله نور المعرفة للزاهدين والعابدين والمحتجبين عنه بالأحوال لاحترقوا واضمحلوا وتلاشوا حتى كأن لم يكونوا . قال الرجل : فذكرت لأحمد بن أبي الحواري فقال : أما أبو الفيض عافاه الله فقال ذلك في وقت ذكره لنفسه ، وأما طاهر فقال ذلك في وقت ذكره لربه ، وكل مصيب ، والله أعلم " .

              حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " ثلاثة علامات الخوف : الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد ، وحفظ اللسان مراقبة للتعظيم ، ودواء الكمد إشفاقا من غضب الحليم . وثلاثة من أعمال الإخلاص : استواء المدح والذم من العامة ، ونسيان رؤيتهم في الأعمال نظرا إلى الله ، واقتضاء ثواب [ ص: 362 ] العمل في الآخرة بحسن عفو الله في الدنيا بحسن المدحة ، وثلاثة من أعمال الكمال : ترك الجولان في البلدان ، وقلة الاغتباط لنعماه عند الامتحان ، وصفو النفس في السر والإعلان ، وثلاثة من أعمال اليقين : قلة المخالفة للناس في العشرة ، وترك المدح لهم في العطية ، والتنزه عن ذمهم في المنع والرزية . وثلاثة من أعلام التوكل : نقض العلائق ، وترك التملق في السلائق ، واستعمال الصدق في الخلائق ، وثلاثة من أعلام الصبر : التباعد عن الخلطاء في الشدة ، والسكون إليه مع تجرع غصص البلية ، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحة المعيشة . وثلاثة من أعلام الحكمة : إنزال النفس من الناس كباطنهم ، ووعظهم على قدر عقولهم ليقوموا عنه بنفع حاضر . . . وثلاثة من أعلام الزهد : قصر الأمل ، وحب الفقر ، واستغناء مع صبر . وثلاثة من أعلام العبادة : حب الليل للسهر بالتهجد والخلوة ، وكراهة الصبح لرؤية الناس والغفلة ، والبدار بالصالحات مخافة الفتنة . وثلاثة من أعلام التواضع : تصغير النفس معرفة بالعيب ، وتعظيم الناس حرمة للتوحيد ، وقبول الحق والنصيحة من كل أحد . وثلاثة من أعمال السخاء : البذل للشيء مع الحاجة إليه ، وخوف المكافأة استقلالا للعطية ، والخوف على النفس استغناء لإدخال السرور على الناس . وثلاثة من أعلام حسن الخلق : قلة الخلاف على المعاشرين ، وتحسين ما يرد عليه من أخلاقهم ، وإلزام النفس اللائمة فيما يختلفون فيه كفا عن معرفة عيوبهم . وثلاثة من أعلام الرحمة للخلق : انزواء العقل للملهوفين ، وبكاء القلب لليتيم والمسكين ، وفقدان الشماتة بمصائب المسلمين ، وبذل النصيحة لهم متجرعا لمرارة ظنونهم ، وإرشادهم إلى مصالحهم وإن جهلوه وكرهوه . وثلاثة من أعظم الاستغناء بالله : التواضع للفقراء المتذللين ، والتعظم على الأغنياء المتكبرين ، وترك المعاشرة لأبناء الدنيا المستكبرين . وثلاثة من أعلام الحياء : وجدان الأنس بفقدان الوحشة ، والامتلاء من الخلوة بإدمان التفكر ، واستشعار الهيبة بخالص المراقبة . وثلاثة من أعلام المعرفة : الإقبال على الله ، والانقطاع إلى الله ، [ ص: 363 ] والافتخار بالله . وثلاثة من أعلام التسليم : مقابلة القضاء بالرضا ، والصبر عند البلا ، والشكر عند الرخا " .

              حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي ، حدثني عبد الله بن سهل ، قال : سألت ذا النون فقلت : متى أعرف ربي ؟ قال : إذا كان لك جليسا ، ولم تر لنفسك سواه أنيسا ، قلت : فمتى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر ، قلت : فمتى أشتاق إلى ربي ؟ قال : إذا جعلت الآخرة لك قرارا ، ولم تسم الدنيا لك مسكنا ودارا .

              سمعت أبا محمد بن حيان ، يقول : سمعت عمر بن يحيى ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " مكتوب في التوراة : ملعون من ثقته إنسان مثله " .

              سمعت محمد بن إبراهيم ، يقول : سمعت محمد بن ريان ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول - وجاءه أصحاب الحديث ليسألوه عن الخطرات والوسواس - فقال : " أنا أتكلم في شيء من هذا ! فإن هذا يحدث سلواني عن شيء من الصلاة والحديث " .

              قال : ورأى ذو النون علي خفا أحمر فقال : " انزع هذا يا بني فإنه شهوة ، ما لبسه النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما لبس النبي صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين " .

              سمعت محمد بن إبراهيم ، يقول : سمعت علي بن حاتم العثماني - بمصر - ، يقول : سمعت ذا النون - وأومأ إلى موضع بمصر - يقول : " كأنك عن قليل ترى هذه المدينة عامرة ، وتخرج منها الخيل المحذفة وقوم عجم ، وعن قليل تراها خرابا ، قال علي بن حاتم : ورأيناها عامرة ورأيناها خرابا " .

              وسمعت ذا النون ، يقول : " القرآن كلام الله " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا عباس بن حمدان ، ثنا أبو الحسن صاحب الشافعي ، قال : " حضرت جنازة ذي النون فرأيت الخفافيش تقع على نعشه وبدنه وتطير " .

              حدثنا محمد بن علي ، قال : سمعت محمد بن زياد ، يقول : " لما مات ذو النون رأيت على جنازته طيورا خضراء فلا أدري أي شيء كان . ومات عندنا [ ص: 364 ] بمصر فأمر أن يجعل قبره مع الأرض " .

              حدثنا أبو جعفر أحمد بن علي بن عبد الله بن حمدان - بالكوفة - ، ثنا عبد الله بن محمد السمناني ، ثنا أبو يعقوب يوسف بن أحمد البغدادي المكفوف ، ثنا أبو الفيض بن إبراهيم المصري ذو النون - سنة خمس وأربعين ومائتين بسر من رأى - قال : " رأيت رجلا في برية يمشي حافيا وهو يقول : المحب مجروح الفؤاد لا راحة له ، قد زحزحت الجرحة الدواء وأزعج الدواء الداء ، فاجتمعا والقلب بينهما بحول يرتكض ، فسلمت عليه فقال لي : وعليك السلام يا ذا النون . قلت : عرفتني قبل هذا ؟ قال : لا . قلت : فمن أين لك هذه الفراسة ؟ فقال : ممن يملكها ليست مني ، هو الذي نور قلبي بالفراسة حتى عرفني إياك من غير معرفة سبقت لي ، يا ذا النون ! قلبي عليل وجسمي مشغول وأنا سائح في البرية ، أسير فيها منذ عشرين سنة ما أعرف بيتا ولا يكنني سقف يسترني من الشمس إذا لظت ، ويحفظني من الرياح إذا هبت ، ويكلؤني من الحر والبرد جميعا ، فصف لي بعض ما أنا فيه إن كنت وصافا ، ثم جلس وجلست ، فقلت : القلب إذا كان عليلا جالت الأحزان والأسقام فيه ، ليس للقلب مع ما يجول من أصل الأسقام دواء ، وإن يستجلب الأحزان من استجلبها يطول سقمه ليشكوه ويشكو إليه ، فصرخ صرخة ، ثم قال : ما لي وللشكوى ؟ أما لو طالت البلوى حتى أصير رميما ما تحركت لي جارحة بالشكوى " .

              قال ذو النون : " فقلت : طرقت الفكرة في قلوب أهل الرضا فمالت بهم ميلة ، فزعزعت الجوى ، ودكدكت الضمير ، فاختلفا جميعا ، فالتويا فعرفتا طريق الرضا منهم بالألفة إليه ، فوهب لهم هبة ثم أتحفهم بتحفة الرضا ، فماجت في بحار قلوبهم موجة فهيجت منها اللذة ، لا بل هيجت منها هيجان اللذات ، فشخصت بالحلاوة التي أتحفت إلى من أتحفها ، فمرت تطير من جوف الجوى ، فأي طيران يكون أبهى من قلوب تطير إلى سيدها ؟ لقد هبت إليه بلا أجنحة تطير ، لقد مرت في الملكوت أسرع من هبوب الرياح ومن يردها وهو يدعوها إليه ، لقد فتح الباب حين هبت إليه طائرة فدخلت قبل أن تقرع الباب ، لقد مهد [ ص: 365 ] لها مهادا ، فتنزهت في روح رياض قدسه فهي له ومعه . فقال : يا ذا النون زدت الجرح قرحا ، وقتلت فأوجعت ، يا هذا ما صحبت صاحبا منذ صحبته أصحبك اليوم . قلت : فقم بنا . فقمنا جميعا نسير بلا زاد ، فلما وغلنا في البرية وطوينا ثلاثا ، فقال لي : قد جعت ؟ قلت : نعم ، قال : فأقسم عليه حتى يطعمك ؟ قلت : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا تسأله شيئا ، إن شاء أطعمك وإن شاء ترك . قال : فتبسم ، وقال : امض الآن فلقد أفيض علينا من أطايب الأطعمة ولذيذ الأشربة حتى دخلنا مكة سالمين ، ثم فارقني وفارقته . قال يوسف : فلقد رأيت ذا النون كلما ذكره بكى وتأسف على صحبته " .

              حدثنا محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا نصر بن شافع المقدسي الزاهد ، ثنا موسى بن علي الإخميمي ، قال : قال ذو النون : " وصف لي رجل باليمن قد برز على المخالفين ، وسما على المجتهدين . وذكر لي باللب والحكمة ، ووصف لي بالتواضع والرحمة . قال : فخرجت حاجا فلما قضيت نسكي مضيت إليه لأسمع من كلامه ، وأنتفع بموعظته أنا وناس كانوا معي يطلبون منه مثل ما أطلب . وكان معنا شاب عليه سيما الصالحين ومنظر الخائفين ، وكان مصفار الوجه من غير مرض ، أعمش العينين من غير عمش ، ناحل الجسم من غير سقم ، يحب الخلوة ويأنس بالوحدة ، تراه أبدا كأنه قريب عهد بالمصيبة أو قد فدحته نائبة . فخرج إلينا فجلسنا إليه فبدأ الشاب بالسلام عليه وصافحه فأبدى له الشيخ البشر والترحيب فسلمنا عليه جميعا ، ثم بدأ الشاب بالكلام ، فقال : إن الله تعالى بمنه وفضله قد جعلك طبيبا لسقام القلوب ، ومعالجا لأوجاع الذنوب ، وبي جرح قد فعل ، وداء قد استكمل ، فإن رأيت أن تتلطف لي ببعض مراحمك ، وتعالجني برفقك ، فقال له الشيخ : سل ما بدا لك يا فتى . فقال له الشاب : يرحمك الله ! ما علامة الخوف من الله ؟ فقال : أن يؤمنه خوفه من كل خوف غير خوفه . ثم قال : يرحمك الله متى يتبين للعبد خوفه من ربه ؟ قال : إذا أنزل نفسه من الله بمنزلة السقيم ، فهو يحتمي من كل الطعام مخافة السقام ، ويصبر على مضض كل دواء مخافة طول الضنا . فصاح الفتى صيحة ، وقال : عافيت فأبلغت ، وعالجت فشفيت ، ثم بقي [ ص: 366 ] باهتا ساعة لا يحير جوابا حتى ظننت روحه قد خرجت من بدنه ، ثم قال : يرحمك الله ! ما علامة المحب لله ؟ قال له : حبيبي إن درجة الحب رفيعة ، قال : فأنا أحب أن تصفها لي . قال : إن المحبين لله شق لهم من قلوبهم فأبصروا بنور القلوب إلى عز جلال الله ، فصارت أبدانهم دنياوية ، وأرواحهم حجبية ، وعقولهم سماوية ، تسرح بين صفوف الملائكة كالعيان وتشاهد ملك الأمور باليقين ، فعبدوه بمبلغ استطاعتهم بحبهم له لا طمعا في جنة ولا خوفا من نار . قال : فشهق الفتى شهقة وصاح صيحة كانت فيها نفسه . قال : فانكب الشيخ عليه يلثمه وهو يقول : هذا مصرع الخائفين ، هذه درجة المجتهدين ، هذا أمان المتقين " .

              حدثنا أحمد بن المعلى الصفدي الوراق ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى الرازي ، ثنا يوسف بن الحسين ، ومحمد بن أحمد ، قالا : سمعنا ذا النون ، يقول : " دارت رحى الإرادة على ثلاث : على الثقة بوعد الله ، والرضا ، ودوام قرع باب الله " .

              حدثنا أحمد ، ثنا أحمد ، ثنا يوسف ، ومحمد ، قالا : سمعنا ذا النون ، يقول : " طوبى لمن أنصف ربه عز وجل ، قيل : وكيف ينصف ربه ؟ قال : يقر له بالآفات في طاعاته ، وبالجهل في معصيته ، وإن آخذه بذنوبه رأى عدله ، وإن غفر له رأى فضله ، وإن لم يتقبل منه حسناته لم يره ظالما لما معه من الآفات ، وإن قبلها رأى إحسانه لما جاد به من الكرامات " .

              سمعت أبي يقول : سمعت أبا الحسن الملطي ، يقول : سمعت أبا عبد الله الجلاء يقول : " خرجت إلى شط نيل مصر فرأيت امرأة تبكي وتصرخ فأدركها ذو النون ، فقال لها : ما لك تبكين ؟ فقالت : كان ولدي وقرة عيني على صدري ، فخرج تمساح فاستلب مني ولدي . قال : فأقبل ذو النون على صلاته وصلى ركعتين ودعا بدعوات ، فإذا التمساح خرج من النيل والولد معه ودفعه إلى أمه ، قال أبو عبد الله : فأخذته وأنا كنت أرى " .

              حدثنا أبي ، ثنا أبو الحسن بن أبان ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : قال بعض الحكماء : " ما خلص العبد لله إلا أحب أن يكون في حب لا يعرف " .

              [ ص: 367 ] حدثنا محمد بن إبراهيم ، قال : سمعت عبد الحكم بن أحمد بن سلام ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " نعوذ بالله من النبطي إذا استعرب " .

              سمعت محمد بن إبراهيم ، يقول : سمعت عبد الحكم بن أحمد بن سلام ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " رأيت في برية موضعا له دندرة فإذا كتاب فيه مكتوب : احذروا العبيد المعتقين والأحداث المتقربين ، والجند المتعبدين ، والنبط المستعربين " .

              قال " وكان ذو النون رجلا نحيفا يعلوه حمرة ليس بأبيض اللحية " .

              حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن حمدان النيسابوري ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشامي ، سمعت ذا النون ، يقول : " إلهي إن أهل معرفتك لما أبصروا العافية ، ولمحوا بأبصارهم إلى منتهى العاقبة وأيقنوا بجودك وكرمك وابتدائك إياهم بنعمك ودللتهم على ما فيه نفعهم دونك ، إذ كنت متعاليا عن المضار والمنافع ، استقلوا كثير ما قدموا من طاعتك واستصغروا عظيم ما اقترفوا من عبادتك ، واستلانوا ما استوعره غيرهم . بذلوا المجهود في طلب مرضاتك ، واستعظموا صغر التقصير في أداء شكرك ، وإن كان ليس شيء من التقصير في طاعتك ، بذل المجهود صغيرا كان عندهم ، فنحلت لذلك أبدانهم ، وتغيرت لذلك ألوانهم ، وخلت من غيرك قلوبهم ، واشتغلت بذكرك عقولهم وألسنتهم ، وانصرفت عن خلقك إليك همومهم ، وأنست وطابت بالخلوة فيك نفوسهم ، لا يمشون بين العباد إلا هونا ، وهم لا يسعون في طاعتك إلا ركضا .

              إلهي ! فكما أكرمتهم بشرف هذه المنازل ، وأبحتهم رفعة هذه الفضائل ، اعقد قلوبنا بحبل محبتك ، ثم حولنا في ملكوت سماواتك وأرضك ، واستدرجنا إلى أقصى مرادك درجة درجة ، واسلك بنا مسلك أصفيائك منزلة منزلة ، واكشف لنا عن مكنون علمك حجابا حجابا ، حتى تنتهي إلى رياض الأنس ، وتجتني من ثمار الشوق إليك ، وتشرب من حياض معرفتك ، وتتنزه في بساتين نشر آلائك وتستنقع في غدران ذكر نعمائك ، ثم ارددها إلينا بطرف الفوائد ، وامددها بتحف الزوائد ، واجعل العيون منا فوارة بالعبرات ، والصدور منا محشوة بالحرقات ، واجعل قلوبنا من القلوب [ ص: 368 ] التي سافرت إليك بالجوع والعطش ، واجعل أنفسنا من الأنفس التي زالت عن اختيارها لهيبتك ، أحينا ما أحييتنا على طاعتك ، وتوفنا إذا توفيتنا على ملتك راضين مرضيين ، هداة مهديين مهتدين غير مغضوب علينا ولا ضالين " .

              سمعت أبا الحسن أحمد بن محمد بن مقسم يقول : سمعت الحسن بن علي بن خلف ، يقول : سمعت إسرافيل ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول :


              أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صرف حبك أوطاري



              سمعت أحمد بن محمد ، يقول : سمعت الحسن بن علي ، يقول : سمعت إسرافيل ، يقول : سمعت رجلا يسأل ذا النون : متى تصح عزلة الخلق ؟ فقال : " إذا قويت على عزلة النفس " .

              حدثنا أحمد بن محمد ، حدثني أحمد بن عثمان المكي الصوفي ، عن أبيه ، قال : قال لنا ذو النون المصري : " رأيت في التيه أسود كلما ذكر الله ابيض لونه ، فقلت له : يا هذا إنه ليبدو عليك حال يغيرك ، فقال : إليك عني يا ذا النون ، فإنه لو بدا عليك ما يبدو علي لجلت كما أجول ، ثم أنشأ يقول :


              ذكرنا وما كنا نسينا فنذكر     ولكن نسيم القرب يبدو فيبهر
              فأحبابه طورا وأغدى به له     إذا الحق عنه مخبر ومغبر



              حدثنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت الحسن بن علي ، يقول : سمعت إسرافيل ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " نظرت إلى رجل في بيت المقدس قد استفرغه الوله فقلت له : ما الذي أثار منك ما أرى ؟ " قال : ذهب الزهاد والعباد بصفو الإخلاص وبقيت في كدر الانتقاص ، فهل من دليل مرشد أو حكيم موقظ ؟ قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " وقد مر به قوم على الدواب وأنا جالس معه فقال : هل ترى كنيفا على كنيف " .

              حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم بن يزيد ، قال : سمعت أحمد بن محمد بن عمر ، يقول : سمعت سعيد بن عثمان الخياط ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول وسأله رجل : يا أبا الفيض رحمك الله ، من أراد التواضع كيف السبيل إليه ؟ فقال له : " افهم ما ألقي إليك ، من أراد إلى سلطان الله ذهب سلطان نفسه لأن النفوس كلها [ ص: 369 ] حقيرة عند هيبته ، ومن أشرف التواضع أن لا ينظر إلى نفسه دون الله ، ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من تواضع لله رفعه الله " يقول : من تذلل بالمسكنة والفقر إلى الله رفعه الله بعز الانقطاع إليه " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية