(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون )
فيه قولان :
أحدهما : أنه متعلق بما قبله ، وعلى هذا التقدير ففيه وجوه :
أحدها : كأنه قال : وعفا عنكم إذ تصعدون ؛ لأن عفوه عنهم لا بد وأن يتعلق بأمر اقترفوه ، وذلك الأمر هو ما بينه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إذ تصعدون ) والمراد به ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين لا يلوون على أحد .
وثانيها : التقدير : ثم صرفكم عنهم إذ تصعدون .
وثالثها : التقدير : ليبتليكم إذ تصعدون .
والقول الثاني : أنه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله ، والتقدير : اذكر إذ تصعدون .
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : قرأ الحسن ( إذ تصعدون في الجبل ) ، وقرأ
أبي ( إذ تصعدون في الوادي ) وقرأ أبو حيوة (إذ تصعدون) بفتح التاء وتشديد العين ، من "تصعد" في السلم .
المسألة الثانية : الإصعاد : الذهاب في الأرض والإبعاد فيه ، يقال صعد في الجبل ، وأصعد في الأرض ، ويقال أصعدنا من
مكة إلى
المدينة ، قال
أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى مثل الوادي والنهر والأزقة ، فإنك تقول : صعد فلان يصعد في الوادي إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم فإنه يقال صعدت .
المسألة الثالثة : ولا تلوون على أحد : أي لا تلتفتون إلى أحد من شدة الهرب ، وأصله أن المعرج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته ، فإذا مضى ولم يعرج قيل لم يلوه ، ثم استعمل اللي في ترك التعريج على الشيء وترك الالتفات إلى الشيء ، يقال : فلان لا يلوي على شيء ، أي لا يعطف عليه ولا يبالي به .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153والرسول يدعوكم ) كان يقول : "
إلي عباد الله أنا رسول الله nindex.php?page=treesubj&link=8178_30795_30794_7862من كر فله الجنة " فيحتمل أن يكون المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ، ولا يتفرقوا ، ويحتمل أن يكون المراد أنه كان يدعوهم إلى المحاربة مع العدو .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153في أخراكم ) أي آخركم ، يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما يقال : في أولهم وأولاهم ، ويقال : جاء فلان في أخريات الناس ، أي آخرهم ، والمعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان
[ ص: 34 ] يدعوهم وهو واقف في آخرهم ؛ لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153فأثابكم غما بغم ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
nindex.php?page=treesubj&link=34080لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير ، ويجوز أيضا استعماله في الشر ؛ لأنه مأخوذ من قولهم : ثاب إليه عقله ، أي رجع إليه ، قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=125وإذ جعلنا البيت مثابة للناس ) [البقرة : 125] والمرأة تسمى ثيبا لأن الواطئ عائد إليها ، وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله سواء كان خيرا أو شرا ، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير ، فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان ذلك واردا على سبيل التهكم ، كما يقال : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ، أي جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=21فبشرهم بعذاب أليم ) [آل عمران : 21] .
المسألة الثانية : الباء في قوله : ( غما بغم ) يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة ، كما يقال : هذا بهذا أي هذا عوض عن ذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى "مع" والتقدير : أثابهم غما مع غم ، أما على التقدير الأول ففيه وجوه :
الأول : وهو قول
الزجاج أنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب أن عصيتم أمره ، فالله تعالى أذاقكم هذا الغم ، وهو الغم الذي حصل لهم بسبب الانهزام وقتل الأحباب ، والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم .
الثاني : قال
الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين ، والمقصود منه أن لا يبقى في قلبكم التفات إلى الدنيا ، فلا تفرحوا بإقبالها ولا تحزنوا بإدبارها ، وهو المعني بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لكي لا تأسوا على ما فاتكم ) [الحديد : 23] في واقعة أحد (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23ولا تفرحوا بما آتاكم ) [الحديد : 23] في واقعة بدر ، طعن القاضي في هذا الوجه وقال : إن
nindex.php?page=treesubj&link=30795غمهم يوم أحد إنما كان من جهة استيلاء الكفار ، وذلك كفر ومعصية ، فكيف يضيفه الله إلى نفسه ؟ ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في
nindex.php?page=treesubj&link=30550_30457تسليط الكفار على المسلمين نوع مصلحة ، وهو أن لا يفرحوا بإقبال الدنيا ولا يحزنوا بإدبارها ، فلا يبقى في قلوبهم اشتغال بغير الله .
الثالث : يجوز أن يكون الضمير في قوله ( فأثابكم ) يعود للرسول ، والمعنى أن الصحابة لما رأوا أن
nindex.php?page=treesubj&link=30802_30798_31788النبي صلى الله عليه وسلم شج وجهه وكسرت رباعيته وقتل عمه ، اغتموا لأجله ، والرسول عليه السلام لما رأى أنهم عصوا ربهم لطلب الغنيمة ثم بقوا محرومين من الغنيمة ، وقتل أقاربهم اغتم لأجلهم ، فكان المراد من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153فأثابكم غما بغم ) هو هذا ، أما على التقدير الثاني وهو أن تكون الباء في قوله : ( غما بغم ) بمعنى "مع" أي غما مع غم ، أو غما على غم ، فهذا جائز لأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض ، تقول : ما زلت به حتى فعل ، وما زلت معه حتى فعل ، وتقول : نزلت ببني فلان ، وعلى بني فلان .
واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة :
أحدها : غمهم بما نالهم من العدو في الأنفس والأموال .
وثانيها : غمهم بما لحق سائر المؤمنين من ذلك .
وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول من الشجة وكسر الرباعية .
ورابعها : ما أرجف به من قتل الرسول صلى الله عليه وسلم .
وخامسها : بما وقع منهم من المعصية وما يخافون من عقابها .
وسادسها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ، وذلك لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام ، وذلك من أشق الأشياء ؛ لأن الإنسان بعد صيرورته منهزما يصير ضعيف القلب جبانا ، فإذا أمر بالمعاودة ، فإن فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف
[ ص: 35 ] الكفر أو عقاب الآخرة ، وهذا الغم لا شك أنه أعظم الغموم والأحزان ، وإذا عرفت هذه الجملة فكل واحد من المفسرين فسر هذه الآية بواحد من هذه الوجوه ونحن نعدها :
الوجه الأول : أن الغم الأول ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والغم الثاني ما حصل عند الهزيمة .
الوجه الثاني : أن الغم الأول ما حصل بسبب فوت الغنائم ، والغم الثاني ما حصل بسبب أن
أبا سفيان nindex.php?page=showalam&ids=22وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما .
الوجه الثالث : أن الغم الأول ما كان عند توجه
أبي سفيان nindex.php?page=showalam&ids=22وخالد بن الوليد عليهم بالقتل ، والغم الثاني هو أن المشركين لما رجعوا خاف الباقون من المسلمين من أنهم لو رجعوا لقتلوا الكل فصار هذا الغم بحيث أذهلهم عن الغم الأول .
والوجه الرابع : أن الغم الأول ما وصل إليهم بسبب أنفسهم وأموالهم ، والغم الثاني ما وصل إليهم بسبب الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية قول ثالث اختاره
القفال رحمه الله تعالى قال : وعندنا أن الله تعالى ما أراد بقوله : ( غما بغم ) اثنين ، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها ، أي أن الله عاقبكم بغموم كثيرة ، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ، ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، ومثل إقدامكم على المعصية ، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زاجرا لكم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى .
المسألة الثالثة : معنى أن الله أثابهم غما بغم : أنه خلق الغم فيهم ، وأما
المعتزلة فهذا لا يليق بأصولهم ، فذكروا في علة هذه الإضافة وجوها :
الأول : قال
الكعبي : إن المنافقين لما أرجفوا أن
محمدا عليه الصلاة والسلام قد قتل ولم يبين الله تعالى كذب ذلك القائل ، صار كأنه تعالى هو الذي فعل ذلك الغم ، وهذا كالرجل الذي يبلغه الخبر الذي يغمه ويكون معه من يعلم أن ذلك الخبر كذب ، فإذا لم يكشفه له سريعا وتركه يتفكر فيه ثم أعلمه فإنه يقول له : لقد غممتني وأطلت حزني وهو لم يفعل شيئا من ذلك ، بل سكت وكف عن إعلامه ، فكذا هاهنا .
الثاني : أن الغم وإن كان من فعل العبد فسببه فعل الله تعالى ؛ لأن الله طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب التي تنالهم وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون .
الثالث : أنه لا يبعد أن
nindex.php?page=treesubj&link=30455_19604_19572_19576يخلق الله تعالى الغم في قلب بعض المكلفين لرعاية بعض المصالح .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153لكيلا تحزنوا ) وفيه وجهان :
الأول : أنها متصلة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=152ولقد عفا عنكم ) كأنه قال : ولقد عفا عنكم لكيلا تحزنوا ؛ لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل غم وحزن .
والثاني : أن اللام متصلة بقوله : ( فأثابكم ) ثم على هذا القول ذكروا وجوها :
الأول : قال
الزجاج : المعنى
nindex.php?page=treesubj&link=30521_30803أثابكم غم الهزيمة من غمكم النبي صلى الله عليه وسلم بسبب مخالفته ، ليكون غمكم بأن خالفتموه فقط ، لا بأن فاتتكم الغنيمة وأصابتكم الهزيمة ، وذلك لأن الغم الحاصل بسبب الإقدام على المعصية ينسي الغم الحاصل بسبب مصائب الدنيا .
الثاني : قال
الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلتموهم مغمومين يوم بدر ، لأجل أن يسهل أمر الدنيا في أعينكم فلا تحزنوا بفواتها ولا تفرحوا بإقبالها ، وهذان الوجهان مفرعان على قولنا : الباء في قوله : ( غما بغم ) للمجازاة ، أما إذا قلنا : إنها بمعنى "مع" فالمعنى أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا أمر
[ ص: 36 ] الرسول لوقعنا في غم فوات الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في هذه الغموم العظيمة التي كل واحد منها أعظم من ذلك الغم أضعافا مضاعفة ،
nindex.php?page=treesubj&link=29450والعاقل إذا تعارض عنده الضرران ، وجب أن يخص أعظمهما بالدفع ، فصارت إثابة الغم على الغم مانعا لكم من أن تحزنوا بسبب فوات الغنيمة ، وزاجرا لكم عن ذلك ، ثم كما زجرهم عن تلك المعصية بهذا الزجر الحاصل في الدنيا ، زجرهم عنها بسبب الزواجر الموجودة في الغنيمة فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153والله خبير بما تعملون ) أي هو عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم ، قادر على مجازاتها ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وذلك من
nindex.php?page=treesubj&link=19660_19673أعظم الزواجر للعبد عن الإقدام على المعصية والله أعلم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )
فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِيهِ وُجُوهٌ :
أَحَدُهَا : كَأَنَّهُ قَالَ : وَعَفَا عَنْكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ ؛ لِأَنَّ عَفْوَهُ عَنْهُمْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِأَمْرٍ اقْتَرَفُوهُ ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ مَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153إِذْ تُصْعِدُونَ ) وَالْمُرَادُ بِهِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْأَخْذِ فِي الْوَادِي كَالْمُنْهَزِمِينَ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ .
وَثَانِيهَا : التَّقْدِيرُ : ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ .
وَثَالِثُهَا : التَّقْدِيرُ : لِيَبْتَلِيَكُمْ إِذْ تُصْعِدُونَ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ ، وَالتَّقْدِيرُ : اذْكُرْ إِذْ تُصْعِدُونَ .
وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ صَاحِبُ "الْكَشَّافِ" : قَرَأَ الْحَسَنُ ( إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْجَبَلِ ) ، وَقَرَأَ
أُبَيٌّ ( إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي ) وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ (إِذْ تَصَعَّدُونَ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْعَيْنِ ، مِنْ "تَصَعَّدَ" فِي السُّلَّمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِصْعَادُ : الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِبْعَادُ فِيهِ ، يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ ، وَأَصْعَدَ فِي الْأَرْضِ ، وَيُقَالُ أَصْعَدْنَا مِنْ
مَكَّةَ إِلَى
الْمَدِينَةِ ، قَالَ
أَبُو مُعَاذٍ النَّحْوِيُّ : كُلُّ شَيْءٍ لَهُ أَسْفَلُ وَأَعْلَى مِثْلَ الْوَادِي وَالنَّهَرِ وَالْأَزِقَّةِ ، فَإِنَّكَ تَقُولُ : صَعَّدَ فُلَانٌ يُصَعِّدُ فِي الْوَادِي إِذَا أَخَذَ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلَاهُ ، وَأَمَّا مَا ارْتَفَعَ كَالسُّلَّمِ فَإِنَّهُ يُقَالُ صَعِدْتُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ : أَيْ لَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ شَدَّةِ الْهَرَبِ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَى الشَّيْءِ يَلْوِي إِلَيْهِ عُنُقَهُ أَوْ عِنَانَ دَابَّتِهِ ، فَإِذَا مَضَى وَلَمْ يُعَرِّجْ قِيلَ لَمْ يَلْوِهِ ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اللَّيُّ فِي تَرْكِ التَّعْرِيجِ عَلَى الشَّيْءِ وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الشَّيْءِ ، يُقَالُ : فُلَانٌ لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ ، أَيْ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ وَلَا يُبَالِي بِهِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ) كَانَ يَقُولُ : "
إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ أَنَا رَسُولُ اللَّهِ nindex.php?page=treesubj&link=8178_30795_30794_7862مَنْ كَرَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ " فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ ، وَلَا يَتَفَرَّقُوا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُحَارَبَةِ مَعَ الْعَدُوِّ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153فِي أُخْرَاكُمْ ) أَيْ آخِرِكُمْ ، يُقَالُ : جِئْتُ فِي آخِرِ النَّاسِ وَأُخْرَاهُمْ ، كَمَا يُقَالُ : فِي أَوَّلِهِمْ وَأُولَاهُمْ ، وَيُقَالُ : جَاءَ فُلَانٌ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ ، أَيْ آخِرِهِمْ ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ
[ ص: 34 ] يَدْعُوهُمْ وَهُوَ وَاقِفٌ فِي آخِرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ بِسَبَبِ الْهَزِيمَةِ قَدْ تَقَدَّمُوهُ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
nindex.php?page=treesubj&link=34080لَفْظُ الثَّوَابِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا فِي الْخَيْرِ ، وَيَجُوزُ أَيْضًا اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ : ثَابَ إِلَيْهِ عَقْلُهُ ، أَيْ رَجَعَ إِلَيْهِ ، قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=125وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ ) [الْبَقَرَةِ : 125] وَالْمَرْأَةُ تُسَمَّى ثَيِّبًا لِأَنَّ الْوَاطِئَ عَائِدٌ إِلَيْهَا ، وَأَصْلُ الثَّوَابِ كُلُّ مَا يَعُودُ إِلَى الْفَاعِلِ مِنْ جَزَاءِ فِعْلِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا ، إِلَّا أَنَّهُ بِحَسْبِ الْعُرْفِ اخْتُصَّ لَفْظُ الثَّوَابِ بِالْخَيْرِ ، فَإِنْ حَمَلْنَا لَفْظَ الثَّوَابِ هَاهُنَا عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ اسْتَقَامَ الْكَلَامُ ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُرْفِ كَانَ ذَلِكَ وَارِدًا عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ ، كَمَا يُقَالُ : تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ ، وَعِتَابُكَ السَّيْفُ ، أَيْ جَعَلَ الْغَمَّ مَكَانَ مَا يَرْجُونَ مِنَ الثَّوَابِ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=21فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [آلِ عِمْرَانَ : 21] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : ( غَمًّا بِغَمٍّ ) يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ، كَمَا يُقَالُ : هَذَا بِهَذَا أَيْ هَذَا عِوَضٌ عَنْ ذَاكَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى "مَعَ" وَالتَّقْدِيرُ : أَثَابَهُمْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ
الزَّجَّاجِ أَنَّكُمْ لَمَّا أَذَقْتُمُ الرَّسُولَ غَمًّا بِسَبَبِ أَنْ عَصَيْتُمْ أَمْرَهُ ، فَاللَّهُ تَعَالَى أَذَاقَكُمْ هَذَا الْغَمَّ ، وَهُوَ الْغَمُّ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ بِسَبَبِ الِانْهِزَامِ وَقَتْلِ الْأَحْبَابِ ، وَالْمَعْنَى جَازَاكُمْ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ بِهَذَا الْغَمِّ .
الثَّانِي : قَالَ
الْحَسَنُ : يُرِيدُ غَمَّ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُسْلِمِينَ بِغَمِّ يَوْمِ بَدْرٍ لِلْمُشْرِكِينَ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِكُمُ الْتِفَاتٌ إِلَى الدُّنْيَا ، فَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا وَلَا تَحْزَنُوا بِإِدْبَارِهَا ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ) [الْحَدِيدِ : 23] فِي وَاقِعَةِ أُحُدٍ (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=23وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ) [الْحَدِيدِ : 23] فِي وَاقِعَةِ بَدْرٍ ، طَعَنَ الْقَاضِي فِي هَذَا الْوَجْهِ وَقَالَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30795غَمَّهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ ، وَذَلِكَ كُفْرٌ وَمَعْصِيَةٌ ، فَكَيْفَ يُضِيفُهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=30550_30457تَسْلِيطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ نَوْعَ مَصْلَحَةٍ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْرَحُوا بِإِقْبَالِ الدُّنْيَا وَلَا يَحْزَنُوا بِإِدْبَارِهَا ، فَلَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمِ اشْتِغَالٌ بِغَيْرِ اللَّهِ .
الثَّالِثُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( فَأَثَابَكُمْ ) يَعُودُ لِلرَّسُولِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30802_30798_31788النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَقُتِلَ عَمُّهُ ، اغْتَمُّوا لِأَجْلِهِ ، وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ عَصَوْا رَبَّهُمْ لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ ثُمَّ بَقُوا مَحْرُومِينَ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَقُتِلَ أَقَارِبُهُمُ اغْتَمَّ لِأَجْلِهِمْ ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ ) هُوَ هَذَا ، أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : ( غَمًّا بِغَمٍّ ) بِمَعْنَى "مَعَ" أَيْ غَمًّا مَعَ غَمٍّ ، أَوْ غَمًّا عَلَى غَمٍّ ، فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يُقَامُ بَعْضُهَا مُقَامَ بَعْضٍ ، تَقُولُ : مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَعَلَ ، وَمَا زِلْتُ مَعَهُ حَتَّى فَعَلَ ، وَتَقُولُ : نَزَلْتُ بِبَنِي فُلَانٍ ، وَعَلَى بَنِي فُلَانٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْغُمُومَ هُنَاكَ كَانَتْ كَثِيرَةً :
أَحَدُهَا : غَمُّهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ .
وَثَانِيهَا : غَمُّهُمْ بِمَا لَحِقَ سَائِرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ذَلِكَ .
وَثَالِثُهَا : غَمُّهُمْ بِمَا وَصَلَ إِلَى الرَّسُولِ مِنَ الشَّجَّةِ وَكَسْرِ الرَّبَاعِيَةِ .
وَرَابِعُهَا : مَا أُرْجِفَ بِهِ مِنْ قَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَخَامِسُهَا : بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا يَخَافُونَ مِنْ عِقَابِهَا .
وَسَادِسُهَا : غَمُّهُمْ بِسَبَبِ التَّوْبَةِ الَّتِي صَارَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا تَابُوا عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ تَتِمَّ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَرْكِ الْهَزِيمَةِ وَالْعَوْدِ إِلَى الْمُحَارَبَةِ بَعْدَ الِانْهِزَامِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَشَقِّ الْأَشْيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُنْهَزِمًا يَصِيرُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ جَبَانًا ، فَإِذَا أُمِرَ بِالْمُعَاوَدَةِ ، فَإِنْ فَعَلَ خَافَ الْقَتْلَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ خَافَ
[ ص: 35 ] الْكُفْرَ أَوْ عِقَابَ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا الْغَمُّ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَنَحْنُ نَعُدُّهَا :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا أَصَابَهُمْ عِنْدَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا حَصَلَ بِسَبَبِ فَوْتِ الْغَنَائِمِ ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا حَصَلَ بِسَبَبِ أَنَّ
أَبَا سُفْيَانَ nindex.php?page=showalam&ids=22وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ اطَّلَعَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ جَمْعًا عَظِيمًا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا كَانَ عِنْدَ تَوَجُّهِ
أَبِي سُفْيَانَ nindex.php?page=showalam&ids=22وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ ، وَالْغَمَّ الثَّانِي هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا رَجَعُوا خَافَ الْبَاقُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا لَقَتَلُوا الْكُلَّ فَصَارَ هَذَا الْغَمُّ بِحَيْثُ أَذْهَلَهُمْ عَنِ الْغَمِّ الْأَوَّلِ .
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْغَمَّ الْأَوَّلَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْغَمَّ الثَّانِي مَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْإِرْجَافِ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الْآيَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ اخْتَارَهُ
الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : وَعِنْدَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ : ( غَمًّا بِغَمٍّ ) اثْنَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوَاصَلَةَ الْغُمُومِ وَطُولَهَا ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَكُمْ بِغُمُومٍ كَثِيرَةٍ ، مِثْلَ قَتْلِ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ ، وَنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ لَمْ تَأْمَنُوا أَنْ يَهْلَكَ أَكْثَرُكُمْ ، وَمِثْلَ إِقْدَامِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : أَثَابَكُمْ هَذِهِ الْغُمُومَ الْمُتَعَاقِبَةَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ : أَنَّهُ خَلَقَ الْغَمَّ فِيهِمْ ، وَأَمَّا
الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِهِمْ ، فَذَكَرُوا فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : قَالَ
الْكَعْبِيُّ : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا أَرَجَفُوا أَنَّ
مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ ذَلِكَ الْقَائِلِ ، صَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ الْغَمَّ ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَغُمُّهُ وَيَكُونُ مَعَهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَذِبٌ ، فَإِذَا لَمْ يَكْشِفْهُ لَهُ سَرِيعًا وَتَرَكَهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ ثُمَّ أَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ : لَقَدْ غَمَّمْتَنِي وَأَطَلْتَ حُزْنِي وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، بَلْ سَكَتَ وَكَفَّ عَنْ إِعْلَامِهِ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
الثَّانِي : أَنَّ الْغَمَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ فَسَبَبُهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ طَبَعَ الْعِبَادَ طَبْعًا يَغْتَمُّونَ بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تَنَالُهُمْ وَهُمْ لَا يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُذَمُّونَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=30455_19604_19572_19576يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَمَّ فِي قَلْبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153لِكَيْلَا تَحْزَنُوا ) وَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=152وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ ) كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا ؛ لِأَنَّ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى مَا يُزِيلُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ اللَّامَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ : ( فَأَثَابَكُمْ ) ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا :
الْأَوَّلُ : قَالَ
الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى
nindex.php?page=treesubj&link=30521_30803أَثَابَكُمْ غَمَّ الْهَزِيمَةِ مِنْ غَمِّكُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ ، لِيَكُونَ غَمُّكُمْ بِأَنْ خَالَفْتُمُوهُ فَقَطْ ، لَا بِأَنْ فَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ وَأَصَابَتْكُمُ الْهَزِيمَةُ ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُنْسِي الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا .
الثَّانِي : قَالَ
الْحَسَنُ : جَعَلَكُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَعَلْتُمُوهُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ، لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ أَمْرُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ فَلَا تَحْزَنُوا بِفَوَاتِهَا وَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِنَا : الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ : ( غَمًّا بِغَمٍّ ) لِلْمُجَازَاةِ ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا : إِنَّهَا بِمَعْنَى "مَعَ" فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لَوْ بَقِينَا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَامْتَثَلْنَا أَمْرَ
[ ص: 36 ] الرَّسُولِ لَوَقَعْنَا فِي غَمِّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ، فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَمَّا خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَطَلَبْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَقَعْتُمْ فِي هَذِهِ الْغُمُومِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ،
nindex.php?page=treesubj&link=29450وَالْعَاقِلُ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الضَّرَرَانِ ، وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ أَعْظَمَهُمَا بِالدَّفْعِ ، فَصَارَتْ إِثَابَةُ الْغَمِّ عَلَى الْغَمِّ مَانِعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَحْزَنُوا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ ، وَزَاجِرًا لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الزَّجْرِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا ، زَجَرَهُمْ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=153وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَقُصُودِكُمْ وَدَوَاعِيكُمْ ، قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِهَا ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ، وَذَلِكَ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19660_19673أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ لِلْعَبْدِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .