الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : هذه الواقعة تدل دلالة ظاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحد ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمين عن الآخر فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم إنه سبحانه قلب القضية ههنا ، فأودع قلوب الغالبين وهم المشركون الخوف والرعب ، وأودع قلوب المغلوبين القوة والحمية والصلابة ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارف من الله تعالى ، وأنها متى حدثت في القلوب وقعت الأفعال على وفقها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) والمراد أنهم كلما ازدادوا إيمانا في قلوبهم أظهروا ما يطابقه فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل . قال ابن الأنباري : ( حسبنا الله ) أي كافينا الله ، ومثله قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                            وحسبك من غنى شبع وري



                                                                                                                                                                                                                                            أي يكفيك الشبع والري ، وأما "الوكيل" ففيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه الكفيل . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            ذكرت أبا أروى فبت كأنني     برد الأمور الماضيات وكيل



                                                                                                                                                                                                                                            أراد كأنني برد الأمور كفيل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال الفراء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن "نعم " سبيلها أن يكون الذي بعدها موافقا للذي قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالق ، وهذا أحسن من قول من يقول : خالقنا الله ونعم الرازق ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول إليه ، والكافي والكفيل يجوز أن يسمى وكيلا ، لأن الكافي يكون الأمر موكولا إليه ، وكذا الكفيل يكون الأمر موكولا إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ) وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ، والمعنى : وخرجوا فانقلبوا ، فحذف الخروج لأن الانقلاب يدل عليه ، كقوله : ( أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) [ الشعراء : 63 ] أي فضرب فانفلق ، وقوله : ( بنعمة من الله وفضل ) قال مجاهد والسدي : النعمة ههنا العافية ، والفضل التجارة ، وقيل : النعمة منافع الدنيا ، والفضل ثواب الآخرة ، وقوله : ( لم يمسسهم سوء ) لم يصبهم قتل ولا جراح في قول الجميع ( واتبعوا رضوان الله ) في طاعة رسوله ( والله ذو فضل عظيم ) قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا ، وفي ذلك إلقاء الحسرة في قلوب المتخلفين عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم مما فاز به هؤلاء ، وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزوا ، فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضي عنهم .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 83 ] واعلم أن أهل المغازي اختلفوا ، فذهب الواقدي إلى تخصيص الآية الأولى بواقعة حمراء الأسد ، والآية الثانية ببدر الصغرى ، ومنهم من يجعل الآيتين في وقعة بدر الصغرى ، والأول أولى لأن قوله تعالى : ( من بعد ما أصابهم القرح ) [ آل عمران : 172 ] كأنه يدل على قرب عهد بالقرح ، فالمدح فيه أكثر من المدح على الخروج على العدو من وقت إصابة القرح لمسه ، والقول الآخر أيضا محتمل . والقرح على هذا القول يجب أن يفسر بالهزيمة ، فكأنه قيل : إن الذين انهزموا ثم أحسنوا الأعمال بالتوبة واتقوا الله في سائر أمورهم ، ثم استجابوا لله وللرسول عازمين على الثواب موطنين أنفسهم على لقاء العدو ، بحيث لما بلغهم كثرة جموعهم لم يفتروا ولم يفشلوا ، وتوكلوا على الله ورضوا به كافيا ومعينا فلهم أجر عظيم لا يحجبهم عنه ما كان منهم من الهزيمة إذ كانوا قد تابوا عنها ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية