الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال أصحاب الظاهر : النكاح واجب ، وتمسكوا بهذه الآية ، وذلك ؛ لأن قوله ( فانكحوا ) أمر ، وظاهر الأمر للوجوب ، وتمسك الشافعي في بيان أنه ليس بواجب بقوله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ) [ النساء : 25 ] إلى قوله : ( ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم ) [ النساء : 25 ] فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله ، وذلك يدل على أنه ليس بمندوب ، فضلا عن أن يقال : إنه واجب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : إنما قال : ( ما طاب ) ولم يقل : من طاب لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه أراد به الجنس تقول : ما عندك ؟ فيقول رجل أو امرأة ، والمعنى ما ذلك الشيء الذي عندك ، وما تلك الحقيقة التي عندك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن ( ما ) مع ما بعده في تقدير المصدر ، وتقديره : فانكحوا الطيب من النساء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن " ما " و " من " ربما يتعاقبان . قال تعالى : ( والسماء وما بناها ) [ الشمس : 5 ] وقال : ( ولا أنتم عابدون ما أعبد ) [ ص: 141 ] [ الكافرون : 5 ] وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان ما سبح له الرعد ، وقال : ( فمنهم من يمشي على بطنه ) [ النور : 45 ] ، ورابعها : إنما ذكر " ما " تنزيلا للإناث منزلة غير العقلاء . ومنه : قوله : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) [ المؤمنون : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الواحدي وصاحب " الكشاف " : قوله ( ما طاب لكم ) أي ما حل لكم من النساء ؛ لأن منهن من يحرم نكاحها ، وهي الأنواع المذكورة في قوله : ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ) [ النساء : 23 ] وهذا عندي فيه نظر ، وذلك لأنا بينا أن قوله : ( فانكحوا ) أمر إباحة . فلو كان المراد بقوله : ( ما طاب لكم ) أي ما حل لكم لنزلت الآية منزلة ما يقال : أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم : وذلك يخرج الآية عن الفائدة ، وأيضا فبتقدير أن تحمل الآية على ما ذكروه تصير الآية مجملة ؛ لأن أسباب الحل والإباحة لما لم تكن مذكورة في هذه الآية صارت الآية مجملة لا محالة ، أما إذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب ، كانت الآية عاما دخله التخصيص . وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين الإجمال والتخصيص كان رفع الإجمال أولى ؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ( مثنى وثلاث ورباع ) معناه : اثنين اثنين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، وهو غير منصرف ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه اجتمع فيها أمران : العدل والوصف ، أما العدل فلأن العدل عبارة عن أنك تذكر كلمة وتريد بها كلمة أخرى ، كما تقول : عمر وزفر وتريد به عامرا وزافرا ، فكذا ههنا تريد بقولك : مثنى : ثنتين ثنتين فكان معدولا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما أنه وصف ، فدليله قوله تعالى : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) [ فاطر : 1 ] ولا شك أنه وصف .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في بيان أن هذه الأسماء غير منصرفة : أن فيها عدلين ؛ لأنها معدولة عن أصولها كما بيناه ، وأيضا أنها معدولة عن تكررها ، فإنك لا تريد بقولك : مثنى ثنتين فقط ، بل ثنتين ثنتين ، فإذا قلت : جاءني اثنان أو ثلاثة كان غرضك الإخبار عن مجيء هذا العدد فقط ، أما إذا قلت : جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين ، فثبت أنه حصل في هذه الألفاظ نوعان من العدد فوجب أن يمنع من الصرف ، وذلك لأنه إذا اجتمع في الاسم سببان أوجب ذلك منع الصرف ، لأنه يصير لأجل ذلك نائبا من جهتين ، فيصير مشابها للفعل فيمتنع صرفه ، وكذا إذا حصل فيه العدل من جهتين فوجب أن يمنع صرفه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال أهل التحقيق : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) لا يتناول العبيد ، وذلك لأن الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها ، والعبد ليس كذلك بدليل أنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه ، ويدل عليه القرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ) [ النحل : 75 ] فقوله : ( لا يقدر على شيء ) ينفي كونه مستقلا بالنكاح ، وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر " فثبت بما ذكرناه أن هذه الآية لا يندرج فيها العبد .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ذهب أكثر الفقهاء إلى أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون [ ص: 142 ] العبيد ، وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع ، وتمسك بظاهر هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب الذي يعتمد عليه : أن الشافعي احتج على أن هذه الآية مختصة بالأحرار بوجهين آخرين سوى ما ذكرناه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) وهذا لا يكون إلا للأحرار .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى قال : ( فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ) [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده . قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان ، فدخول التقييد في الأخير لا يوجب دخوله في السابق .

                                                                                                                                                                                                                                            أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن هذه الخطابات في هذه الآيات وردت متوالية على نسق واحد فلما عرف في بعضها اختصاصها بالأحرار عرف أن الكل كذلك ، ومن الفقهاء من علم أن ظاهر هذه الآية متناول للعبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس ، قالوا : أجمعنا على أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح ، كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر ، والجواب الأول أولى وأقوى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : ذهب قوم منهم السدي إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن قوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) لا يصلح تخصيصا لذلك العموم ؛ لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقا ، فإن الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصا في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقا ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقا ، ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة ، بل كان إذنا في المذكور وغيره ، فكذا ههنا ، وأيضا فذكر جميع الأعداد متعذر ، فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) يفيد حل هذا المجموع ، وهو يفيد تسعة ، بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر ، لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا القول في البقية . وأما الخبر فمن وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : ( فاتبعوه ) [ الأنعام : 153 ] وأقل مراتب الأمر الإباحة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : الخبر ، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أمسك أربعا وفارق باقيهن ، وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال عليه السلام : " أمسك أربعا وفارق واحدة " .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان [ ص: 143 ] ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد ، وإنه غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي ؛ لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز ، إما بسبب النسب ، أو بسبب الرضاع ، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله .

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ، فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية !. الثاني : أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني ، أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا كان الأمر على ما قلتم فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : مثنى أو ثلاث أو رباع ، فلم جاء بواو العطف دون " أو " ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : لو جاء بكلمة " أو " لكان ذلك يقتضي أنه لا يجوز ذلك إلا على أحد هذه الأقسام ، وأنه لا يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، والبعض الآخر بالتثليث والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسما من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقول الرجل للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، والمراد أنه يجوز لبعضهم أن يأخذ درهمين درهمين ، ولبعض آخرين أن يأخذوا ثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ههنا الفائدة في ترك " أو " وذكر الواو ما ذكرناه والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : قوله : ( مثنى وثلاث ورباع ) محله النصب على الحال مما طاب ، تقديره : فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية