الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال الجبائي : إن المشبهة تمسكوا في إثبات رؤية الله تعالى بقوله :( تحيتهم يوم يلقونه سلام ) [ الأحزاب : 44 ] قال : واللقاء ليس عبارة عن الرؤية ، بدليل أنه قال في صفة المنافقين :( إلى يوم يلقونه ) وأجمعوا على أن الكفار لا يرونه ، فهذا يدل على أن اللقاء ليس عبارة عن الرؤية . قال : والذي يقويه قوله عليه السلام : " من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " . وأجمعوا على أن المراد من اللقاء ههنا : لقاء ما عند الله من العقاب ، فكذا ههنا . والقاضي استحسن هذا الكلام . وأقول : أنا شديد التعجب من أمثال هؤلاء الأفاضل كيف قنعت نفوسهم بأمثال هذه الوجوه الضعيفة ؟ وذلك لأنا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرؤية في هذه الآية ، وفي هذا الخبر لدليل منفصل ، فلم يلزمنا ذلك في سائر الصور ، ألا ترى أنا لما أدخلنا التخصيص في بعض العمومات لدليل منفصل ، لم يلزمنا مثله في جميع العمومات أن نخصصها من غير دليل ، فكما لا يلزم هذا لم يلزم ذلك ، فإن قال : هذا الكلام إنما يقوى لو ثبت أن اللقاء في اللغة عبارة عن الرؤية ، وذلك ممنوع ، فنقول : لا شك أن اللقاء عبارة عن الوصول ، ومن رأى شيئا فقد وصل إليه ، فكانت الرؤية لقاء ، كما أن الإدراك هو البلوغ ، قال تعالى :( قال أصحاب موسى إنا لمدركون ) [ الشعراء : 61 ] . أي : لملحقون ، ثم حملناه على الرؤية فكذا ههنا ، ثم نقول : لا شك أن اللقاء ههنا ليس هو الرؤية ، بل المقصود أنه تعالى أعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، أي : حكمه وقضاءه ، وهو كقول الرجل : ستلقى عملك غدا ، أي : تجازى عليه ، قال تعالى :( بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ) والمعنى : أنه تعالى عاقبهم بتحصيل ذلك النفاق في قلوبهم لأجل أنهم أقدموا قبل ذلك على خلف الوعد وعلى الكذب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 115 ] ثم قال تعالى :( ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم ) والسر ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى ما يفاوض فيه بعضهم بعضا فيما بينهم ، وهو مأخوذ من النجوة وهو الكلام الخفي ، كأن المتناجيين منعا إدخال غيرهما معهما وتباعدا من غيرهما ، ونظيره قوله تعالى :( وقربناه نجيا ) [ مريم : 52 ] . وقوله :( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا ) [ يوسف : 80 ] . وقوله :( فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى ) [ المجادلة : 9 ] . وقوله :( إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) [ المجادلة : 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت الفرق بين السر والنجوى ، فالمقصود من الآية كأنه تعالى قال : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم ، مع علمهم بأنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ، وأنه يعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر ؟

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال :( وأن الله علام الغيوب ) والعلام مبالغة في العالم ، والغيب ما كان غائبا عن الخلق . والمراد أنه تعالى ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء ، فوجب أن يحصل له العلم بجميع المعلومات ، فيجب كونه عالما بما في الضمائر والسرائر ، فكيف يمكن الإخفاء منه ؟ ونظير لفظ علام الغيوب ههنا قول عيسى عليه السلام :( إنك أنت علام الغيوب ) [ المائدة : 116 ] . فأما وصف الله بالعلامة فإنه لا يجوز ؛ لأنه مشعر بنوع تكلف فيها يعلم والتكلف في حق الله محال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية