الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن عبر الدم الخمسة عشر فقد اختلط حيضها بالاستحاضة ، فلا يخلو إما أن تكون مبتدأة غير مميزة ، أو مبتدأة مميزة ، أو معتادة غير مميزة ، أو معتادة مميزة أو ناسية غير مميزة ، أو ناسية مميزة ، فإن كانت مبتدأة غير مميزة وهي التي بدأ بها الدم ، وعبر الخمسة عشر والدم على صفة واحدة ففيها قولان : ( أحدهما ) : تحيض أقل الحيض ; لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بكونه حيضا ، ( والثاني ) : ترد إلى غالب عادة النساء وهو ست أو سبع ، وهو الأصح لقوله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش : " { تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن } " ; ولأنه لو كان لها عادة ردت إليها ; لأن [ الظاهر أن ] حيضها في هذا الشهر كحيضها فيما تقدم فإذا لم يكن لها عادة فالظاهر أن حيضها كحيض نسائها ولداتها فردت إليها ، وإلى أي عادة ترد ؟ فيه وجهان : ( إحداهما ) : إلى غالب عادة النساء لحديث حمنة ( والثاني ) : إلى عادة نساء بلدها وقومها ; لأنها أقرب إليهن ، فإن استمر بها الدم في الشهر الثاني اغتسلت عند انقضاء اليوم والليلة في أحد القولين وعند انقضاء الست أو السبع في الآخر ; لأنا قد علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة ، وأن حكمها ما ذكرناه فتصلي وتصوم ولا تقضي الصلاة وأما الصوم ، فلا تقضي ما تأتي به بعد الخمسة عشر ، وفيما تأتي به قبل الخمسة عشر وجهان : ( أحدهما ) : تقضيه لجواز أن يكون صادف زمان الحيض فلزمها قضاؤه كالناسية ( والثاني ) : لا تقضي وهو الأصح ; لأنها صامت في زمان حكمنا بالطهر فيه بخلاف الناسية فإنه لم يحكم لها بحيض ولا طهر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث حمنة صحيح سبق بيانه مع بيان اسمها ، وبيان الاختلاف في أنها كانت مبتدأة أو معتادة ، والمبتدأة بهمزة مفتوحة بعد الدال ، وهي التي ابتدأها الدم ولم تكن رأته ، والمميزة بكسر الياء فاعلة من التمييز ، وقوله : كحيض نسائها ولداتها ، هو بكسر اللام وتخفيف الدال المهملة وبالتاء المثناة فوق ، ومعناه أقرانها . [ ص: 423 ] وأما أحكام المسألة ) فلما فرغ المصنف من حكم الحائض إذا لم يجاوز دمها أكثر الحيض انتقل إلى بيان حكم المستحاضات ، وهن من جاوز دمهن أكثر الحيض ، واختلط الحيض والطهر ، وهن منقسمات إلى هذه الأقسام التي ذكرها ( إحداهن ) المبتدأة وهي التي ابتدأها الدم لزمان الإمكان وجاوز خمسة عشر ، وهو على لون أو على لونين ، ولكن فقد شرط من شروط التمييز التي يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، ففيها قولان مشهوران نص عليهما الشافعي رحمه الله في الأم في باب المستحاضة .

                                      ( أحدهما ) : حيضها يوم وليلة من أول الدم ، ( والثاني ) : ست أو سبع ، ودليلهما في الكتاب . واختلفوا في أصحهما فصحح المصنف والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في كتابه المستخلص ، وسليم الرازي في رءوس المسائل والروياني في الحلية والشاشي وصاحب البيان قول الست أو السبع ، وصحح الجمهور في الطريقين قول اليوم والليلة ، وممن صححه القاضي أبو حامد في جامعه والشيخ أبو محمد الجويني والغزالي في الخلاصة والشيخ نصر المقدسي والبغوي والرافعي وآخرون . وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات منهم ابن القاص في المفتاح والتلخيص ، وأبو عبد الله الزبيري في الكافي وباب الحيض في آخر كتابه ، وله اصطلاح غريب في ترتيب كتابه ، وأبو الحسن بن خيران في كتابه اللطيف ، وسليم الرازي في الكفاية ، والمحاملي في المقنع والشيخ نصر في الكافي وآخرون ، وهو نص الشافعي في البويطي ومختصر المزني ، واختاره ابن سريج وعلى القولين ابتداء حيضها من أول رؤية الدم .

                                      قال أصحابنا : فإذا قلنا حيضها ست أو سبع فباقي الشهر طهر وهو تمام الدور وهو ثلاثون يوما ، وهكذا يكون دورها أبدا ثلاثين ، منها ستة أو سبعة حيض والباقي طهر ، وإن قلنا حيضها يوم وليلة ، ففي طهرها ثلاثة أوجه ، هكذا حكاها إمام الحرمين والغزالي وجماعات من الخراسانيين أوجها ، وحكاها الشيخ أبو محمد في الفروق أقوالا أصحها وأشهرها أنه تسعة وعشرون يوما تمام الشهر ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والعراقيون وجماعات من الخراسانيين ، وصححه شيخهم القفال ; لأن الغالب أن الدور ثلاثون . [ ص: 424 ]

                                      فإذا ثبت للحيض يوم وليلة تعين الباقي للطهر ; ولأن الرد إلى يوم وليلة في الحيض إنما كان للاحتياط . فالاحتياط في الطهر أن يكون باقي الشهر ، والوجه الثاني : أن الطهر خمسة عشر يوما فيكون دورها ستة عشر يوما أبدا منها يوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر ; لأنها ردت إلى أقل الحيض وترد إلى أقل الطهر ، وهذا الوجه مشهور عند الخراسانيين ، ونقله القاضي حسين والمتولي والبغوي وآخرون عن نصه في البويطي ، وكذا رأيته أنا في البويطي نصا صريحا لا يحتمل التأويل ، وهذا في غاية الضعف . قال إمام الحرمين : هذا الوجه اتباع لفظ وإعراض عن المعنى ; لأن الرد إلى أقل الحيض إنما كان لتكثر صلاتها ، فإذا ردت إلى أقل الطهر عاجلها الحيض فقلت صلاتها . والوجه الثالث : ترد إلى غالب الطهر واختاره الشيخ أبو محمد الجويني وقال : إنه المشهور من نص الشافعي ، ودليله أن مقتضى الدليل الرد إلى الغالب ، خالفنا في الحيض للاحتياط ، وليس في أقل الطهر احتياط فبقيناه على مقتضى الدليل ، فعلى هذا يرد إلى الغالب من غالب الطهر وهو ثلاثة وعشرون أو أربعة وعشرون ولا يتعين أحدهما ، هكذا صرح به الشيخ أبو محمد في كتابه الفروق ، وإمام الحرمين والغزالي في البسيط والرافعي وآخرون وقال الغزالي في الوسيط : على هذا ترد إلى أربعة وعشرين ; لأنه أحوط .

                                      ونقله إمام الحرمين عن والده أبي محمد ، والأول أصح والله أعلم . قال أصحابنا العراقيون والمتولي : وإذا قلنا : ترد إلى ست أو سبع فهل ذلك على سبيل التخيير ؟ فيه وجهان مشهوران عندهم ، وحكاهما القاضي أبو الطيب والمحاملي والشيخ نصر في الانتخاب وغيرهم عن ابن سريج ، أحدهما : أنه للتخيير بين الست والسبع ، فإن شاءت جعلت حيضها ستا ، وإن شاءت سبعا ; لأن كل واحد منهما عادة وبهذا قطع الجرجاني في البلغة ، واختاره ابن الصباغ ونقله القاضي أبو الطيب وغيره عن أبي إسحاق المروزي قال الرافعي : وزعم الحناطي أنه الأصح لظاهر الحديث ، ( والوجه الثاني ) أنه ليس للتخيير بل للتقسيم ، فإن كانت عادة النساء ستا فحيضها ست ، وإن كانت سبعا فسبع ، وهذا هو الصحيح وبه قطع جمهور الخراسانيين وصححه العراقيون والمتولي . قال إمام الحرمين : تخيل التخيير محال ، فعلى هذا في النساء المعتبرات أربعة أوجه ( أحدها ) : نساء زمانها في الدنيا كلها [ ص: 425 ] لظاهر حديث حمنة حكاه المصنف وآخرون .

                                      ( والثاني ) : نساء بلدها وناحيتها .

                                      ( والثالث ) : نساء عصبتها خاصة ، حكاه الروياني والرافعي كالمهر ( والرابع ) وهو الأصح باتفاق الأصحاب : نساء قراباتها من جهة الأب والأم جميعا ، هكذا صرح به الصيدلاني وإمام الحرمين والبغوي ، وبهذا الوجه قطع البغوي وجماعات . ونقله إمام الحرمين عن الأكثرين ، فعلى هذا إن لم يكن لها نساء عشيرة اعتبر نساء بلدها ; لأنها أقرب إليهن ، كذا صرح به البغوي والمتولي ، ثم إن كان عادة النساء المعتبرات ستا فحيض هذه ست ، وإن كانت سبعا فسبع ، وإن كانت دون ست أو فوق سبع فوجهان : حكاهما البغوي وغيره أصحهما ترد إلى الست إن كانت عادتهن دونها وإلى السبع إن كانت فوقها ; لأنه أقرب إلى الحديث وبهذا قطع الفوراني وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم . وادعى الغزالي في البسيط اتفاق الأصحاب عليه ، ( والثاني ) : ترد إلى عادتهن زادت أو نقصت . قال البغوي : وهذا أقيس ; ; لأن الاعتبار بالنساء . ولو كان بعضهن يحضن ستا وبعضهن يحضن سبعا فقال إمام الحرمين وآخرون : ترد إلى الست ، وقال البغوي والرافعي : إن استوى البعضان فإلى الست ، وإلا فالاعتبار بغالب النسوة ، ولو حاض بعضهن فوق سبع وبعضهن دون ست فحيضها الست هذا بيان مرد المبتدأة . ثم ما حكم بأنه حيض من يوم وليلة أو ست أو سبع فلها فيه حكم الحائض في كل شيء . وما فوق الخمسة عشر لها فيه حكم الطاهرات في كل شيء .

                                      وأما ما بين المرد والخمسة عشر ففيه قولان مشهوران في جميع كتب الأصحاب من العراقيين والخراسانيين وحكاهما صاحب الحاوي عن الأم ونقله المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وجهين وأنكر ذلك عليهما ، أصحهما باتفاق الأصحاب أن لها فيه حكم الطاهرات في كل شيء فيصح صومها وصلاتها وطوافها ، وتحل لها القراءة ومس المصحف والجماع ، ولا يلزمها قضاء الصوم والصلاة وغيرهما مما تفعله فيه ، ويصح قضاء ما تقضيه فيه من صلاة وصوم وطواف وغيرها ; لأن هذه فائدة الحكم بأن اليوم والليلة أو الست أو السبع حيض ليكون الباقي طهرا ، وقياسا على المميزة والمعتادة ، فإن ما سوى أيام تمييزها وعادتها يكون طهرا بلا خلاف ، فكذا المبتدأة . [ ص: 426 ] والثاني : أنها تؤمر في هذه المدة بالاحتياط الذي تؤمر به المتحيرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فتغتسل لكل صلاة وتصلي وتصوم ولا تقرأ القرآن ولا توطأ ، ويلزمها قضاء الصوم الذي أدته في هذه الأيام ولا تقضي الصلوات المؤديات فيها بلا خلاف ، كذا صرح به الأصحاب . ونقل الاتفاق عليه الرافعي وغيره ، قالوا : ولا يجيء فيه الخلاف في قضاء صلاة المتحيرة ، ودليل هذا القول أن هذا الزمان يحتمل أنه طهر وأنه حيض ، فأشبهت المتحيرة ، والمذهب الأول . ثم ظاهر كلام الجمهور أنها إذا ردت إلى ست أو سبع كان ذلك حيضا بيقين وفيما وراءه القولان . وقال المتولي : يوم وليلة من أول الست والسبع حيض بيقين ، وفيما بعده إلى تمام ست أو سبع القولان : ( أحدهما ) : أنه حيض بيقين ، ( والثاني ) : أنه حيض مشكوك فيه فيحتاط فيه فتغتسل وتقضي صلواته والصواب الأول . قال أصحابنا : فإذا رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة فلها ثلاثة أحوال : حال طهر بيقين وهو ما بعد الخمسة عشر إلى آخر الشهر ، وحال حيض بيقين ، وهو اليوم والليلة ، وحال طهر مشكوك فيه ، وهو ما بعد يوم وليلة إلى آخر خمسة عشر ، وإن رددناها إلى ست أو سبع فلها أربعة أحوال : حال طهر بيقين ، وهو ما بعد الخمسة عشر إلى آخر الشهر ، وحال حيض بيقين وهو اليوم والليلة ، وحال حيض مشكوك فيه وهو ما بعد يوم وليلة إلى آخر ست أو سبع ، وحال طهر مشكوك فيه وهو ما بعد ست أو سبع إلى آخر الخمسة عشر والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا رحمهم الله : إذا رأت المبتدأة الدم في أول أمرها أمسكت عن الصوم والصلاة وغيرهما مما تمسك عنه الحائض رجاء أن ينقطع على خمسة عشر يوما فما دونها فيكون كله حيضا . فإذا استمر وجاوز الخمسة عشر علمنا أنها مستحاضة وفي مردها القولان ، فإذا استمر بها الدم في الشهر الثاني وجب عليها الغسل عند انقضاء المرد ، وهو يوم وليلة أو ست أو سبع ، ولا تمسك إلى آخر الخمسة عشر ; لأنا علمنا بالشهر الأول أنها مستحاضة ، فالظاهر أن حالها في هذا الشهر كحالها في الأول ، وهكذا حكم الشهر الثالث وما بعده . ومتى انقطع الدم في بعض الشهور [ ص: 427 ] لخمسة عشر فما دونها تبينا أن جميع الدم في ذلك الشهر حيض ، فيتدارك ما ينبغي تداركه من صوم وغيره مما فعلته بعد المرد وتبينا أن غسلها بعد المرد لم يصح لوقوعه في الحيض ولا إثم عليها فيما فعلته بعد المرد من صوم وصلاة وغيرهما ; لأنها معذورة .

                                      قال أصحابنا : وتثبت الاستحاضة بمرة واحدة بلا خلاف ، ولا يجيء فيها الخلاف المعروف في ثبوت العادة في قدر الحيض بمرة واحدة ، ونقل إمام الحرمين والغزالي وغيرهما العادة في باب الحيض أربعة أقسام : ( أحدها ) : ما يثبت فيه بمرة واحدة بلا خلاف وهو الاستحاضة ; لأنها علة مزمنة فإذا وقعت فالظاهر دوامها ويبعد زوالها ، وسواء في هذا المبتدأة والمعتادة والمميزة .

                                      ( الثاني ) : ما تثبت فيه العادة بمرتين ، وفي ثبوته بمرة واحدة وجهان : الأصح الثبوت وهو قدر الحيض .

                                      ( الثالث ) : لا تثبت بمرة ولا مرات على الأصح وهو التوقف بسبب تقطع الدم إذا كانت ترى يوما دما ويوما نقاء ، كما سيأتي إيضاحه في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                      ( الرابع ) : لا تثبت العادة فيه بمرة ولا مرات متكررات بلا خلاف ، وهي المستحاضة إذا انقطع دمها فرأت يوما دما ويوما نقاء ، واستمرت لها أدوار هكذا ثم أطبق الدم على لون واحد ، فإنه لا يلتقط لها قدر أيام الدم بلا خلاف وإن قلنا باللقط لو لم يطبق الدم ، قالوا : وكذا لو ولدت مرات ولم تر نفاسا أصلا ، ثم ولدت وأطبق الدم وجاوز ستين يوما لم يصر عدم النفاس عادة بلا خلاف ، بل هذه مبتدأة في النفاس والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا لم تعرف المبتدأة وقت ابتداء دمها ، فحكمها حكم المتحيرة ذكره الرافعي وهو ظاهر .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في المبتدأة ، حكى العبدري عن زفر : ترد [ ص: 428 ] إلى يوم وليلة وهي رواية عن أحمد ، وقال عطاء والأوزاعي والثوري وإسحاق : إلى ست أو سبع وهي رواية عن أحمد ، وعن أبي حنيفة : إلى أكثر الحيض عنده وهو عشرة أيام ، وعن أبي يوسف : ترد في إعادة الصلاة إلى ثلاثة أيام ، وهو أقل الحيض عنده ، وفي الوطء إلى أكثره احتياطا للأمرين . وعن مالك رواية خمسة عشر يوما ، ورواية كأقرانها ، وعن داود إلى خمسة عشر ، ودلائلها تعرف مما سبق والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية