الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( يجب على المستحاضة أن تغسل الدم وتعصب الفرج وتستوثق بالشد وبالتلجم ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش رضي الله عنها " { أنعت لك الكرسف ، فقالت : إنه أكثر من ذلك ، فقال : تلجمي } " فإن استوثقت ثم خرج الدم من غير تفريط في الشد لم تبطل صلاتها ، لما روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها استحيضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " { تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وتصلي حتى يجيء ذلك الوقت ، وإن قطر الدم على الحصير } " ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث حمنة صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بهذا اللفظ إلا قوله : ( تلجمي ) فإنه في الترمذي خاصة . وفي رواية أبي داود بدله " فاتخذي ثوبا " وهو بمعنى تلجمي . ثم هذا بعض حديث طويل مشهور . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، قال : وسألت محمدا ، يعني البخاري عنه فقال : حديث حسن . قال : وكذا قال أحمد بن حنبل : هو حديث حسن صحيح والكرسف بضم الكاف والسين القطن ، وأنعت أصف .

                                      [ ص: 551 ] وأما حديث بنت أبي حبيش فرواه أبو داود والدارقطني والبيهقي ، وليس في روايتهم : " حتى يجيء ذلك الوقت " ولا في رواية أبي داود : " إن قطر الدم على الحصير " وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ ، ضعفه أبو داود في سننه وبين ضعفه وبين البيهقي ضعفه ، ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري ويحيى بن سعيد القطان وعلي بن المديني ويحيى بن معين ، وهؤلاء حفاظ المسلمين ، ورواه أبو داود والبيهقي من طرق أخرى كلها ضعيفة . وإذا ثبت ضعف الحديث تعين الاحتجاج بما سأذكره إن شاء الله تعالى ، وقد سبق في أول الباب بيان حديث حمنة بنت أبي حبيش .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : إذا أرادت المستحاضة الصلاة ونعني بالمستحاضة التي يجري دمها مستمرا في غير أوانه لزمها الاحتياط في طهارتي الحدث والنجس ، فتغسل فرجها قبل الوضوء أو التيمم إن كانت تتيمم ، وتحشوه بقطنة وخرقة دفعا للنجاسة وتقليلا لها ، فإن كان دمها قليلا يندفع بذلك وحده فلا شيء عليها غيره . وإن لم يندفع بذلك وحده شدت مع ذلك على فرجها وتلجمت ، وهو أن تشد على وسطها خرقة أو خيطا أو نحو ذلك على صورة التكة ، وتأخذ خرقة أخرى مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخذيها وأليتها ، وتشد الطرفين في الخرقة التي في وسطها أحدهما قدامها عند سرتها والآخر خلفها ، وتحكم ذلك الشد وتلصق هذه الخرقة المشدودة بين الفخذين بالقطنة التي على الفرج إلصاقا جيدا ، وهذا الفعل يسمى تلجما واستثفارا لمشابهته لجام الدابة وثفرها بفتح الثاء المثلثة والفاء ، وسماه الشافعي رحمه الله التعصيب .

                                      قال أصحابنا : وهذا الذي ذكرناه من الحشو والشد والتلجم واجب . قال الرافعي إلا في موضعين : أحدهما أن تتأذى بالشد ويحرقها اجتماع الدم فلا يلزمها لما فيه من الضرر . الثاني أن تكون صائمة فتترك الحشو نهارا وتقتصر على الشد والتلجم . قالوا : ويجب تقديم الشد والتلجم على الوضوء وتتوضأ عقب الشد من غير إمهال ، فإن شدت وتلجمت وأخرت الوضوء وطال الزمان ثم توضأت ففي صحة وضوئها وجهان حكاهما صاحب الحاوي قال : وهما الوجهان فيمن تيمم وعلى بدنه نجاسة . قال أصحابنا : فإذا استوثقت بالشد على الصفة المذكورة ثم خرج دمها بلا تفريط لم تبطل طهارتها ولا صلاتها ، ولها أن تصلي بعد فرضها ما شاءت [ ص: 552 ] من النوافل لعدم تفريطها ولتعذر الاحتراز عن ذلك . وقد أثبتت الأحاديث الصحيحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة : " { إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي } " فهذا مع حديث حمنة دليل لجميع ما ذكرناه وينضم إليه المعنى الذي قدمناه .

                                      وأما إذا خرج الدم بتقصيرها في الشد أو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد فزاد خروج الدم بسببه فإنه يبطل طهرها ، وإن كان ذلك في أثناء الصلاة بطلت ، وإن كان بعد فريضة لم تستبح نافلة لتقصيرها والله أعلم .

                                      وأما تجديد غسل الفرج وحشوه وشده لكل فريضة فينظر إن زالت العصابة عن موضعها زوالا له تأثير ، أو ظهر الدم على جوانب العصابة ، وجب التجديد بلا خلاف . نقل الاتفاق عليه إمام الحرمين وغيره لأن النجاسة كثرت وأمكن تقليلها والاحتراز عنها فوجب التجديد كنجاسة النجو إذا خرجت عن الأليين فإنه يتعين الماء وإن لم تزل العصابة عن موضعها ولا ظهر الدم فوجهان حكاهما الخراسانيون أصحهما عندهم وجوب التجديد كما يجب تجديد الوضوء .

                                      ( والثاني ) لا يجب إذ لا معنى للأمر بإزالة النجاسة مع استمرارها بخلاف الأمر بتجديد طهارة الحدث مع استمراره فإنه معهود في التيمم .

                                      قال إمام الحرمين : وهذا الوجه غير سديد لأنه لا خلاف في الأمر به . وإذا زالت العصابة فلا أثر للزوال ، وإنما الأثر لتجدد النجاسة . قال الرافعي : ونقل المسعودي هذا الخلاف قولين ، قال البغوي والرافعي : وهذا الخلاف جار فيما إذا انتقض وضوءها قبل الصلاة ، واحتاجت إلى وضوء آخر بأن خرج منها ريح فيلزمها تجديد الوضوء وفي تجديد الاحتياط بالشد الخلاف ولو انتقض وضوءها بالبول وجب تجديد العصابة بلا خلاف لظهور النجاسة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية