الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( : فإن كمل الماء المطلق بمائع بأن احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ومعه أربعة أرطال فكمله بمائع ، لم يتغير به كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان ، قال أبو علي الطبري : لا يجوز الوضوء به ; لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع ، فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء وبعضها بالمائع ، ومن أصحابنا من قال : إنه يجوز ; لأن المائع استهلك في الماء فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه ) . ثم قال المصنف في أول الباب الثاني : إذا اختلط بالماء شيء طاهر ولم يتغير به لقلته لم يمنع الطهارة به ; لأن الماء باق على إطلاقه ، وإن لم يتغير به لموافقته الماء في الطعم واللون والرائحة كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان ( أحدهما ) : إن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به لبقاء اسم الماء المطلق ، وإن كانت الغلبة للخالط لم تجز لزوال إطلاق اسم الماء ( والثاني ) : إن كان ذلك قدرا لو كان مخالفا للماء في صفاته لم يغيره لم يمنع ، وإن كان قدرا لو كان مخالفا له غيره منع ; لأن الماء لما لم يغير بنفسه اعتبر بما يغيره ، [ ص: 147 ] كما تقول في الجناية التي ليس لها أرش مقدر لما لم يمكن اعتبارها بنفسها ، اعتبرت بالجناية على العبيد .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) اعلم أن المسألة الأولى معدودة في مشكلات المهذب ، وهي أول مسألة ذكروها في مشكلاته ، ووجه الإشكال : أن بينهما وبين المسألة التي بعدها في أول الباب الثاني اشتباها كما تراه ، وأجابوا : بأن المسألة الأولى مفرعة على الثانية فكان ينبغي ، للمصنف أن يذكر الثانية أولا ، وحاصل حكم المذهب : أن المائع المخالط للماء إن قل جازت الطهارة منه وإلا فلا ، وبماذا تعرف القلة والكثرة ؟ ينظر ، فإن خالفه في بعض الصفات فالعبرة بالتغير ، فإن غيره فكثير ، وإلا فقليل ، وهذه هي المسألة الأولى من الباب الثاني ، وهذا متفق عليه ، وإن وافقه في صفاته ففيما تعتبر به القلة والكثرة الوجهان المذكوران في الكتاب في المسألة الثانية أصحهما : بتقديره مخالفا في صفاته - كما سنوضحه إن شاء الله تعالى - هكذا صححه جمهور الخراسانيين وهو المختار .

                                      وممن صححه البغوي والرافعي وقطع به القاضي حسين بن محمد وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني ( بضم الفاء ) صاحب الإبانة وإمام الحرمين ، والغزالي وآخرون والثاني : يعتبر الوزن فإن كان الماء أكثر وزنا جازت الطهارة منه ، وإن كان المائع أكثر أو تساويا فلا ، وصححه صاحب البيان وبعض العراقيين ، وقطع به الماوردي وأبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وأبو علي البندنيجي .

                                      والمذهب : الأول ولو خالط الماء المطلق ماء مستعمل فطريقان أصحهما : أنه كالمائع ففيه الوجهان ، وبهذا قطع الجمهور منهم القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله وصححه الرافعي وآخرون ( والثاني ) : يعتبر الوزن قطعا وبه قطع الشيخ أبو حامد وأبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد صاحب الشامل المعروف بابن الصباغ .

                                      ثم حيث حكمنا بقلة المائع إما لكونه لم يغير الماء مع مخالفته ، وإما لقلة وزنه على وجه ، وإما لعدم تغيره بتقدير المخالفة على الأصح فالوضوء منه جائز ، وهل يجوز استعماله كله ؟ أم يجب ترك قدر المائع ؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف في آخر الباب ( الأول ) : قول أبي علي الطبري وقول [ ص: 148 ] غيره والصحيح منهما عند الجمهور : جواز استعمال الجميع لما ذكره المصنف ، وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين ، وقد اتفق الجمهور على تغليط أبي علي ، ونقل إمام الحرمين عن العراقيين تغليطه ، وكذا هو في كتبهم ونقل الرافعي : أن الأصحاب أطبقوا على تغليطه ، وقد شذ عن الأصحاب القاضي أبو الطيب والشيخ أبو محمد الجويني فصححا قول أبي علي ، ونقل الماوردي : أن طائفة وافقت أبا علي وأن الجمهور خالفوه ثم ضابط قول أبي علي : أن الماء إن كان قدرا يكفي للطهارة صحت طهارته سواء استعمل الجميع أو بقي قدر المائع ، وإن كان لا يكفيها إلا بالمائع وجب أن يبقى قدر المائع ، فعلى مذهبه لو احتاج الجنب إلى عشرة أرطال ومعه تسعة من الماء فطرح فيه رطل مائع وقلنا : الاعتبار بالوزن ، فإن اغتسل بالجميع لم يصح ، ولو توضأ عن حدث بجميعه جاز ، قال أصحابنا : هذا الذي قاله ظاهر الفساد وتحكم لا أصل له ، وأي فرق بين طرحه في كاف وغيره ؟ .

                                      وبهذا رد المصنف عليه بقوله ، كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه . واعلم : أن عبارة المصنف في حكاية قول أبي علي الطبري ناقصة وموهمة خلاف المراد ، فإن ظاهرها أنه يقول : لا يجوز الوضوء منه مطلقا ، وليس المراد كذلك ، بل مذهبه أنه يجوز أن يستعمل منه قدر الماء بلا شك ، وتمام تفصيله على ما ذكرناه من ضابطه ، هكذا صرح به الأصحاب في حكايتهم عنه ، ولو نقله المصنف كما نقله الأصحاب على ما ذكرناه كان أولى وأصوب وبالله التوفيق .

                                      ثم المراد بقولهم : لا يكفيه أي لواجب الطهارة ، وهو مرة مرة ، صرح به الفوراني والبغوي وآخرون .

                                      قال إمام الحرمين : لو كان الماء يكفي الوجه واليدين ويقصر عن الرجلين وخلطه بالمائع المذكور صح غسل الوجه واليدين وفي الرجلين خلاف أبي علي والجمهور ، فلو كان كافيا وضوءه فقط صح الوضوء به ، فإن فضل شيء ففي استعماله في طهارة أخرى الخلاف ، وحكى الرافعي وجها أنه يجب تبقية قدر المائع ، وإن كان الماء كافيا وهذا غريب ، وإذا قلنا بالمذهب ، وهو جواز استعمال الجميع فكان الماء لا يكفي ومعه مائع يكمله لزمه التكميل ، ذكره الرافعي وهو فرع حسن ، وصورته : أن لا يزيد ثمن المائع على [ ص: 149 ] ثمن الماء ، فإن زاد لم يجب كما لا يجب شراء الماء بأكثر من ثمن المثل .

                                      وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق تفريعا على قول أبي علي : لو كان معه ماء كاف لوضوءين إلا عضوا فكمله بمائع صحت صلاته بالوضوءين وفرق بينه وبين ما إذا نقص عن أعضائه مرة فكمله بأنه يتيقن استعمال مائع في طهارة معينة ، وهنا تيقنه في إحدى الطهارتين لا بعينها والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا قلنا بالأصح في المائع المخالط أن الاعتبار بتقديره بغيره ، فالمعتبر أوسط الصفات وأوسط المخالفات لا أعلاها ولا أدناها ، وهذا متفق عليه إلا الروياني فإنه قال : يعتبر بما هو أشبه بالمخالط ، وأما إذا وقع في قلتين فصاعدا مائع نجس يوافق الماء في صفاته كبول انقطعت رائحته ، فيعتبر بتقديره مخالفا بلا خلاف ولا يجيء فيه الوجه القائل باعتبار الوزن ، ويعتبر أغلظ الصفات وأشد المخالفات هنا بلا خلاف لغلظ أمر النجاسة ، هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا عليه .

                                      ( فرع ) أبو علي الطبري المذكور اسمه الحسن بن القاسم الطبري نسبة إلى طبرستان ، وكذا القاضي أبو الطيب منسوب إلى طبرستان ، وتفقه أبو علي الطبري على ابن أبي هريرة وصنف كتبا كثيرة منها الإفصاح وهو كتاب نفيس وصنف في أصول الفقه والجدل . قال المصنف في طبقاته : وصنف المحرر في النظر ، وهو أول مصنف في الخلاف المجرد ، ودرس ببغداد توفي سنة خمسين وثلاثمائة - رحمه الله - وبالله التوفيق .




                                      الخدمات العلمية