الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان ، قال في الأم : لا يطهر كما لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة ، وقال في حرملة : يطهر ، وهو الأصح ; لأن التغير قد زال فصار كما لو زال بنفسه أو بماء آخر ، ويفارق الكافور والمسك ; لأن هناك يجوز أن تكون الرائحة باقية ، وإنما لم تطهر لغلبة رائحة الكافور والمسك )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذان القولان مشهوران ، وذكر المصنف : أن أحدهما في الأم والآخر في حرملة ، وكذا قاله المحاملي في المجموع ، وقال القاضي أبو الطيب : القولان نقلهما حرملة ونقلهما المزني في الجامع الكبير ، وقال الشيخ أبو حامد والماوردي : هذان القولان نقلهما المزني في جامعه الكبير عن الشافعي ، وقال صاحب الشامل : نص عليهما في رواية حرملة ، وقال المحاملي في التجريد : قال الشافعي في عامة كتبه : يطهر ، وقال في حرملة : لا يطهر ، كذا قال في التجريد عن حرملة لا يطهر ، وهو خلاف ما نقل هو في المجموع ، وصاحب [ ص: 185 ] المهذب ، والجمهور عن حرملة : أنه يطهر ، ولكن ذكرنا عن القاضي أبي الطيب وصاحب الشامل أنهما نقلا عن حرملة نقل القولين فصح نقله في التجريد عن حرملة ونقل الأصحاب .

                                      ثم اختلف المصنفون في الأصح من القولين ، فصحح المصنف هنا وفي التنبيه ، وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني والشاشي وغيرهم الطهارة ، وهو اختيار المزني والقاضي وأبي حامد المروذي ، وصحح الأكثرون أنه لا يطهر ، وهو الأصح المختار ، ممن صححه المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والفوراني والبغوي وصاحب العدة والرافعي وغيرهما ، وقطع به المحاملي في المقنع والشيخ نصر في الكافي وآخرون .

                                      واحتج له المتولي بأنه وقع الشك في زوال التغير ، وإذا وقع الشك في سبب الإباحة لم تثبت الإباحة ، كما لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس ، وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم ؟ لا تباح .

                                      واعلم أن صورة المسألة أن يكون كدرا ولا تغير فيه ، أما إذا صفا فلا يبقى خلاف ، بل إن كان التغير موجودا فنجس قطعا وإلا فطاهر قطعا ، كذا صرح به المتولي وغيره ، ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون أو الرائحة ففي الجميع القولان هذا هو الصواب . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله : عندي أن القولين إذا تغير بالرائحة ، فأما إذا تغير بالطعم أو اللون فلا يطهر قطعا ; لأنه يستتر بالتراب ، قال : وهذا تحقيق لو عرض على الأئمة لقبلوه ، وهذا الذي قاله رحمه الله خلاف ظاهر كلام الأصحاب ، وخلاف مقتضى إطلاق من أطلق منهم ، وخلاف تصريح الباقين ، فقد صرح جماعة من كبارهم بأنه لا فرق ، قال المحاملي في التجريد : إن تغير لونه فورد عليه ما له لون كالخل ، فأزال تغيره أو تغير ريحه فورد عليه ما له ريح كالكافور فأزاله لم يطهر بلا خلاف ، قال : وإن طرح عليه ما لا ريح له ولا لون كالتراب وغيره فأزاله فقولان .

                                      وقال هو في المجموع : إذا تغير طعم الماء أو لونه أو ريحه نجس ويطهر بأربعة أشياء متفق عليها ، وخامس مختلف فيه فذكر زواله بنفسه وبما يضاف [ ص: 186 ] إليه أو ينبع فيه أو يؤخذ منه ، ثم قال : والمختلف فيه أن يزول بالتراب فقولان ، ثم قال : وجملته أنه متى تغير طعم الماء فورد عليه ما له طعم ، أو ريحه فورد عليه ما له ريح ، أو لونه فورد عليه ما له لون ، لم يطهر بلا خلاف ، وإن ورد عليه ما لا طعم له ولا لون ولا ريح فأزال تغيره فهل يطهر ؟ فيه قولان ، هذا كلام المحاملي .

                                      وقال صاحب التتمة : إن تغير لونه فطرح فيه زعفران أو ريحه فطرح فيه مسك لم يطهر ، وإن طرح تراب فهل يطهر قبل أن يصفو ؟ فيه قولان أحدهما : لا يطهر ; لأن زوال لون النجاسة لم يتحقق لاحتمال أن لون التراب غلبه ، وقال الفوراني : إذا وقعت نجاسة في ماء فغيرت طعمه أو لونه أو ريحه ، فإن زال التغير بزعفران ، لم يطهر ، وإن زال بتراب فقولان ، الأصح : لا يطهر ; لأنه يستر لون النجاسة .

                                      وقال الرافعي : أحد القولين يطهر ; لأن التراب لا يغلب على شيء من الأوصاف الثلاثة ، والأصح : لا يطهر ; لأنه وإن لم يغلب على هذه الأوصاف إلا أنه يكدر الماء ، والكدورة سبب الستر ، قال : وذكر بعضهم : أن هذا الخلاف في مسألة التراب مفروض في التغير بالرائحة ، فأما اللون فلا يؤثر فيه التراب ، قال الرافعي : والأصول المعتمدة ساكتة عن هذا التفصيل ، فهذا الذي ذكره هؤلاء مصرح بأنه لا فرق بين الأوصاف والله أعلم .

                                      وأما قوله : " وإن طرح فيه تراب أو جص " ففيه قولان ، فكذا قاله الأكثرون ، فطردوا القولين في الجص والنورة التي لم تحرق ونحو ذلك مما ليس بغالب لصفة تغير الماء وقيل : القولان في التراب فقط ، وأما غيره فلا يؤثر قطعا نقله الروياني وصاحب البيان وغيرهما ، والصحيح : الأول قال الروياني : وقد نقل المزني وحرملة النورة صريحا ونقلا فيها القولين . ويقال : جص ( بكسر الجيم وفتحها ) لغتان مشهورتان والكسر أجود ، وهي أعجمية معربة . وقول المصنف : قال في الأم وقال في حرملة ، يعني قال الشافعي في كتابه ( الأم ) ، وهو الكتاب المعروف رواه عنه الربيع بن سليمان [ ص: 187 ] المرادي ، وقوله : قال في حرملة يعني الشافعي في الكتاب الذي يرويه حرملة عنه ، فسمي الكتاب باسم راويه وناقله وهو حرملة مجازا واتساعا كما سبق بيانه عند ذكر البويطي ، وهو حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي بضم التاء المثناة فوق ، ويقال بفتحها والضم أشهر ، المصري أبو حفص وقيل : أبو عبد الله وهو شيخ مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح ، أكثر من الرواية عنه في صحيحه ، وكفى بذلك له شرفا وفضلا ، ولد سنة : ست وستين ومائة وتوفي في شوال سنة : ثلاث وأربعين ومائتين ، وقيل : سنة أربع وأربعين رحمه الله ، فإن قيل : إذا زال التغير بالتراب ينبغي أن يجزم بنجاسة الماء لكونه متغيرا بتراب متنجس ، قلنا : هذا خيال فاسد ; لأن نجاسة التراب نجاسة مجاورة للماء النجس ، فإذا زالت نجاسة الماء طهر التراب والماء جميعا ; لأن عينه طاهرة




                                      الخدمات العلمية