الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( ومحله قبل السلام لحديث أبي سعيد وحديث ابن بحينة ، ولأنه يفعل لإصلاح الصلاة فكان قبل السلام ، كما لو نسي سجدة من الصلاة .

                                      ومن أصحابنا من قال : فيه قول آخر أنه إن كان السهو زيادة كان محله بعد السلام .

                                      والمشهور هو الأول ; لأن بالزيادة يدخل النقص في صلاته كما يدخل بالنقصان ، فإن لم يسجد حتى سلم فلم يتطاول الفصل سجد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا وسلم ثم سجد ، وإن طال ففيه قولان ( أحدهما ) : يسجد ; لأنه جبران فلم يسقط بالتطاول كجبران الحج .

                                      وقال في الجديد : لا يسجد ، وهو الأصح ; لأنه يفعل لتكميل الصلاة ، فلم يفعل بعد تطاول الفصل ، كما لو نسي سجدة من الصلاة فذكرها بعد السلام وبعد تطاول الفصل ، وكيف يسجد بعد السلام ؟ فيه وجهان .

                                      قال أبو العباس بن القاص : يسجد ثم يتشهد ; لأن السجود في الصلاة بعده تشهد فكذلك هذا ، وقال أبو إسحاق : لا يتشهد ، وهو الأصح ; لأن الذي ترك هو السجود فلا يعيد معه غيره )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : حديث أبي سعيد وابن بحينة سبق بيانهما وحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمسا وسلم ثم سجد رواه البخاري ومسلم من رواية ابن مسعود رضي الله عنه .

                                      ( أما حكم الفصل ) ففي محل سجود السهو طريقان حكاهما إمام الحرمين وآخرون ( أحدهما ) : في المسألة ثلاثة أقوال : الصحيح منها : أنه قبل السلام ، فإن أخره لم يعتد به ( والثاني ) : إن كان السهو زيادة فمحله بعد السلام ، وإن كان نقصا فقبله ولا يعتد به بعده ( والثالث ) : إن شاء قدمه وإن شاء أخره [ ص: 70 ] وهما سواء .

                                      والطريق الثاني يجزئ التقديم والتأخير وإنما الأقوال في بيان الأفضل ففي قول التقديم أفضل ، وفي قول التقديم والتأخير سواء في الفضيلة ، وفي قول إن كان زيادة فالتأخير أفضل ، وإلا فالتقديم .

                                      قال إمام الحرمين ووجه هذه الطريقة صحة الأخبار في التقديم والتأخير .

                                      قال : والطريقة المشهورة الأولى وتحمل الأقوال في الإجزاء والجواز كما سبق هذا كلام الإمام وقال صاحب الحاوي : لا خلاف بين الفقهاء ، يعني جميع العلماء أن سجود السهو جائز قبل السلام وبعده ، وإنما اختلفوا في المسنون والأولى ، فمذهب الشافعي وما نص عليه في القديم والجديد أن الأولى فعله قبل السلام في الزيادة والنقصان ، وبه قال أبو هريرة وسعيد بن المسيب والزهري وربيعة والأوزاعي والليث وقال أبو حنيفة والثوري : الأولى فعله بعد السلام في الزيادة والنقصان .

                                      وبه قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم ، وقال مالك : إن كان لنقصان فالأولى فعله قبل السلام ، وإن كان لزيادة فالأولى فعله بعد السلام ، وقد أشار إليه الشافعي في كتاب اختلافه مع مالك ، والمشهور من مذهبه في القديم والجديد أنه قبل السلام فيهما ، هذا كلام صاحب الحاوي ، والمذهب أنه قبل السلام ، وسبقت أدلة هذه المذاهب ، والجمع بين الأحاديث في أول الباب .

                                      ومما استدلوا به لأبي حنيفة حديث عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لكل سهو سجدتان بعد السلام } وهذا حديث ضعيف ظاهر الضعف والله أعلم .

                                      قال أصحابنا فإذا قلنا بالمذهب : إنه قبل السلام فسلم قبل السجود نظرت فإن سلم عامدا عالما بالسهو فوجهان حكاهما الخراسانيون ( أصحهما ) : عندهم وبه قطع إمام الحرمين والغزالي وغيرهما أنه فوت السجود ولا يسجد ( والثاني ) : يسجد إن قرب الفصل وإلا فلا .

                                      وهذا هو مقتضى إطلاق المصنف وغيره من العراقيين ونص عليه الشافعي في باب صلاة الخوف من البويطي فعلى هذا إذا سجد لا يكون عائدا إلى الصلاة بلا خلاف بخلاف ما إذا سلم ناسيا وسجد ، فإن فيه خلافا ، وإن سلم ناسيا فإن طال الفصل فقولان ( الجديد ) الأظهر لا يسجد ( والقديم ) يسجد .

                                      وذكر المصنف دليلهما وإن لم يطل بل ذكر على قرب فإن بدا له أن لا يسجد فذاك والصلاة ماضية على الصحة وحصل التحلل بالسلام ، هذا هو الصحيح وبه قطع الأكثرون ، وفيه [ ص: 71 ] وجه أنه يجب السلام مرة أخرى ، وذلك السلام غير معتد به حكاه الرافعي وغيره والمذهب الأول ، وإن أراد أن يسجد فالصحيح المنصوص الذي قطع به المصنف والجمهور : أنه يسجد لحديث ابن مسعود رضي الله عنه .

                                      والثاني : لا يسجد لفوات محله ، وهذا غلط لمخالفته السنة .

                                      فإذا قلنا بالصحيح هنا أو بالقديم عند طول الفصل : إنه يسجد فسجد فهل يكون عائدا إلى حكم الصلاة ؟ فيه وجهان مشهوران للخراسانيين ( أرجحهما ) عند البغوي : لا يكون عائدا ( وأصحهما ) عند الأكثرين : يكون عائدا ، وبه قال الشيخ أبو زيد وصححه القفال وإمام الحرمين والغزالي في الفتاوى والروياني وغيرهم ، ويتفرع على الوجهين مسائل : ( منها ) لو تكلم عامدا أو أحدث في السجود بطلت صلاته على الوجه الثاني دون الأول .

                                      ومنها لو كان السهو في صلاة جمعة وخرج الوقت ، وهو في السجود فاتت الجمعة على الوجه الثاني دون الأول ، ومنها لو كان مسافرا يقصر ونوى الإتمام في السجود لزمه الإتمام على الوجه الثاني دون الأول ، ومنها هل يكبر للافتتاح ويتشهد ؟ إن قلنا بالثاني لم يكبر ولم يتشهد لكن يجب إعادة السلام بعد السجود ، وإن قلنا بالأول كبر .



                                      وفي التشهد وجهان ، أصحهما لا يتشهد ; لأنه لم يصح فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ، قال البغوي : والصحيح أنه يسلم سواء قلنا يتشهد أم لا ، للأحاديث الصحيحة السابقة في أول الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام ثم سلم ، وأما طول الفصل ففي حده الخلاف السابق في أول الباب والأصح الرجوع إلى العرف ، وحاول إمام الحرمين ضبط العرف فقال : إذا مضى زمن يغلب على الظن أنه ترك السجود قصدا أو نسيانا فهو طويل وإلا فقصير ، قال : ولو سلم وأحدث ثم انغمس في ماء على قرب الزمن فالظاهر أن الحدث فاصل ، وإن لم يطل الزمان ، ولنا قول إن الاعتبار في الفصل بمفارقة المجلس وعدمها ، وقد سبق بيانه وهو شاذ ، والصحيح الذي عليه الأصحاب اعتبار العرف ، ولا يضر مفارقة المجلس ، واستدبار القبلة إذا قرب الفصل ، لحديث ذي اليدين رضي الله عنه .

                                      هذا كله تفريع على قولنا : يسجد قبل السلام ، فإن قلنا بعده فليسجد [ ص: 72 ] عقبه فإن طال الفصل عاد الخلاف ، وإذا سجد لم يحكم بعوده إلى الصلاة بلا خلاف ، صرح به الرافعي وغيره ، وهل يتحرم للسجدتين ويتشهد ويسلم ؟ قال إمام الحرمين : حكمه حكم سجود التلاوة وقطع الشيخ أبو حامد في تعليقه بأنه يتشهد ويسلم ، ونقله عن نصه في القديم ، وادعى الاتفاق عليه ، فإن قلنا : يتشهد فوجهان ، وقيل قولان ( الصحيح ) المشهور : أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة ( والثاني ) : يتشهد قبلهما ليليهما السلام .

                                      وإن قلنا : يسجد للزيادة بعد السلام وللنقص قبله فسها سهوين بزيادة ونقص فوجهان ( أصحهما ) وبه قطع المتولي : يسجد قبل السلام ، ليقع السلام بعد جبرها ( والثاني ) : وبه قطع البندنيجي في كتابه الجامع : يسجد بعد السلام للزيادة المحضة وللزيادة والنقص ، وللزيادة المتوهمة كمن شك في عدد الركعات .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن نسي سجود السهو فمتى يؤمر بتداركه ؟ قد ذكرنا مذهبنا ، وقال أبو حنيفة : يسجد متى ذكره ، وإن طال الزمان ما لم يتكلم .

                                      وقال الحسن البصري : ما لم يصرف وجهه عن القبلة وإن تكلم .

                                      وقال أحمد : ما دام في المسجد وإن تكلم واستدبر القبلة .

                                      وقال مالك : إن كان السهو زيادة سجد متى ذكره ولو بعد شهر ، وإن كان لنقص سجد إن قرب الفصل ، وإن طال استأنف الصلاة .



                                      ( فرع ) سجود السهو سجدتان بينهما جلسة ، ويسن في هيئتها الافتراش ويتورك بعدهما إلى أن يسلم ، وصفة السجدتين في الهيئة والذكر صفة سجدات الصلاة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية