الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - - رحمه الله تعالى ( وفي صلاة القارئ خلف الأمي ، وهو من لا يحسن الفاتحة ، أو خلف الأرت والألثغ قولان أحدهما ; لأنه ركن من أركان الصلاة فجاز للقادر عليه أن يأتم بالعاجز عنه كالقيام ( والثاني ) لا تجوز ; لأنه يحتاج أن يحمل [ ص: 164 ] قراءته ، وهو يعجز عن ذلك فلا يجوز أن ينتصب للتحمل كالإمام الأعظم إذا عجز عن تحمل أعباء الأمة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الأعباء - بفتح الهمزة وبالعين المهملة والباء الموحدة وبالمد - جمع عبء - بكسر العين وإسكان الباء بعدهما همزة - كحمل وأحمال ، والعبء : الثقل ، والأعباء الأثقال ، وقوله : عجز - بفتح الجيم - يعجز - بكسرها - ويجوز عكسه لغتان الأولى أفصح ، وقوله : ركن احتراز من الشرط ، وهو إذا لم يجد ماء ولا ترابا وصلى بحاله ، وكذا من عليه نجاسة عجز عن إزالتها فلا يجوز الاقتداء بهما ( وقوله ) : الأرت : هو من يدغم حرفا في حرف في غير موضع الإدغام والألثغ من يبدل حرفا بحرف كالراء بالغين والسين بالثاء وغير ذلك .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : الأمي ما لا يحسن الفاتحة بكمالها سواء كان لا يحفظها ، أو يحفظها كلها إلا حرفا ، أو يخفف مشددا لرخاوة في لسانه أو غير ذلك ، وسواء كان ذلك لخرس أو غيره فهذا الأمي والأرت والألثغ إن كان تمكن من التعلم فصلاته في نفسه باطلة ، فلا يجوز الاقتداء به بلا خلاف ، وإن لم يتمكن بأن كان لسانه لا يطاوعه أو كان الوقت ضيقا ، ولم يتمكن قبل ذلك ; فصلاته في نفسه صحيحة ، فإن اقتدى به من هو في مثل حاله صح اقتداؤه بالاتفاق ; لأنه مثله فصلاته صحيحة ، وإن اقتدى به قارئ لا يحفظ الفاتحة كلها أو يحفظ منها شيئا لا يحفظه الأمي ، ففيه قولان منصوصان ، وثالث مخرج ( أصحهما ) وهو الجديد : لا يصح الاقتداء به ( والقديم ) إن كانت صلاة جهرية لم تصح ، وإن كانت سرية صحت .

                                      ( والثالث ) المخرج خرجه أبو إسحاق المروزي ، وحكاه البندنيجي عنه ، وعن ابن سريج أنه يصح مطلقا ، ودليل الجميع يفهم مما ذكره المصنف واحتجوا للقديم بأن الإمام يتحمل عن المأموم القراءة في الجهرية على القديم هكذا ذكر الأقوال الثلاثة جمهور أصحابنا العراقيين والخراسانيين ، منهم الشيخ أبو حامد وأصحابه ، وصاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب ، والمحاملي في كتابه ، وصاحب الشامل والشيخ نصر وخلائق من العراقيين ، والقاضي حسين والمتولي وصاحب العدة وآخرون من الخراسانيين .

                                      [ ص: 165 ] وقال إمام الحرمين والغزالي : ( الجديد ) : أنه لا يصح الاقتداء به ، والقديم : يصح ، وهذا نقل فاسد عكس المذهب ، فالصواب ما سبق ، واتفق المصنفون على أن الصحيح بطلان الاقتداء ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم ، واختار المزني وأبو ثور وابن المنذر صحته مطلقا ، وهو مذهب عطاء وقتادة ، واحتج لهم بالقياس على العجز عن القيام كما ذكر المصنف ، وفرق أصحابنا بأن العجز عن القيام ليس بنقص ، وجهل القراءة نقص فهو كالكفر والأنوثة ، ولأن القيام يعم البلوى بالعجز عنه بخلاف القراءة ، والله أعلم .

                                      واعلم أن الأقوال الثلاثة جارية ، سواء علم المأموم أن الإمام أمي أم جهل ذلك هكذا صرح به الشيخ أبو حامد وغيره ، وهو مقتضى كلام الباقين ، وشذ عنهم صاحب الحاوي فقال : الأقوال إذا كان جاهلا وإن علم لم تصح قطعا ، والمذهب ما قدمناه ولو حضر رجلان كل واحد يحفظ نصف الفاتحة فقط فإن اتفقا في نصف معين جاز الاقتداء ، وإن حفظ أحدهما النصف الأول والآخر الآخر فأيهما صلى خلف صاحبه فهو قارئ خلف أمي وهذا يفهم مما قدمته لكن أفردته بالذكر كما أفرده الأصحاب وليتنبه له ، ولو صلى من لا يحفظ الفاتحة لكنه يحفظ سبع آيات غيرها خلف من لا يحفظ قرآنا بل يصلي بالأذكار فهو صلاة قارئ خلف أمي ، خرجه أبو علي وغيره ، ولو اقتدى أرت بألثغ فهو قارئ خلف أمي ; لأنه يحسن شيئا لا يحسنه ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا صلى القارئ خلف أمي بطلت صلاة المأموم ، وصحت صلاة الإمام ، وكذا المأمومون الأميون كما قدمناه ، هذا مذهبنا ، ومذهب أحمد وقال أبو حنيفة ومالك : تبطل صلاة الإمام والمأموم والقارئ والأمي ; لأنه أمكنه الصلاة خلف قارئ فبطلت صلاته لترك قراءة قدر عليها .

                                      واحتج أصحابنا بأنه اقتدى بمن لا يجوز اقتداؤه فلم تبطل صلاة الإمام بسبب اقتداء المأموم كما لو صلت امرأة برجال قال أصحابنا : وإنما قلنا بسبب اقتداء المأموم لئلا يوردوا ما إذا صلت المرأة الجمعة برجال ، فإن فيها وجهين : حكاهما القاضي أبو الطيب وهذه المسألة من تعليقه ( أرجحهما ) : تبطل صلاتها ( والثاني ) : تنعقد ظهرا ، وبه قطع الشيخ أبو حامد في هذا الموضع من تعليقه فعلى هذا لا يصح الإيراد ( وإن قلنا ) : تبطل فما بطلت [ ص: 166 ] لبطلان صلاة المأموم بل لعدم شرط الجمعة ، وهو إمامة رجل ، قال أصحابنا : ولأن الأصول المقررة متفقة على أن الفساد لا يتعدى من صلاة الإمام إلى المأموم ( والجواب ) عما قالوه : لا نسلم أنه أمكنه القراءة ; لأن عندنا تجب القراءة على المأموم ، ولأنه ينتقض بالأخرس إذا أم ناطقا فإنه أمكنه أن يصلي خلفه ، وصلاته صحيحة ، وينتقض بالأمي إذا أمكنه أن يصلي خلف قارئ فصلى منفردا صحت بالاتفاق ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا لحن في القراءة كرهت إمامته مطلقا ، فإن كان لحنا لا يغير المعنى كرفع الهاء من ( الحمد لله ) كانت كراهة تنزيه ، وصحت صلاته وصلاة من اقتدى به ، وإن كان لحنا يغير المعنى كضم التاء من ( أنعمت ) أو كسرها ، أو يبطله بأن يقول ( الصراط المستقين ) فإن كان لسانه يطاوعه وأمكنه التعلم فهو مرتكب للحرام ويلزمه المبادرة بالتعلم ، فإن قصر وضاق الوقت لزمه أن يصلي ويقضي : ولا يصح الاقتداء به ، وإن لم يطاوعه لسانه أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه صلاة مثله خلفه صحيحة ، وصلاة صحيح اللسان خلفه كصلاة قارئ خلف أمي ، وإن كان في غير الفاتحة صحت صلاته وصلاة كل أحد خلفه ; لأن ترك السورة لا يبطل الصلاة فلا يمنع الاقتداء .

                                      قال إمام الحرمين : ولو قيل ليس لهذا اللاحن قراءة غير الفاتحة مما يلحن فيه لم يكن بعيدا ; لأنه يتكلم بما ليس قرآنا بلا ضرورة ، والله أعلم .

                                      قال البندنيجي : ولو صلى القارئ خلف من ينطق بالحرف بين حرفين كقاف غير خالصة بل مترددة بين كاف وقاف صحت صلاته مع الكراهة ، وهذا الذي ذكره فيه نظر ; لأنه لم يأت بهذا الحرف ، وممن ذكر نحو كلام البندنيجي الشيخ أبو حامد .

                                      ( فرع ) لو اقتدى قارئ بمن ظنه قارئا فبان أميا ، وقلنا : لا تصح صلاة القارئ خلف أمي ففي وجوب الإعادة وجهان : ( أصحهما ) تجب ، وبه [ ص: 167 ] قطع البغوي وغيره ، وهو مقتضى كلام الجمهور ، وسواء كانت صلاة سرية أو جهرية ، ولو اقتدى بمن لا يعرف في صلاة جهرية فلم يجهر وجبت الإعادة بالاتفاق إذا قلنا لا تجوز صلاة قارئ خلف أمي ; نص عليه الشافعي في الأم وصرح به أصحابنا العراقيون وغيرهم ; لأن الظاهر أنه لو كان قارئا لجهر ، فلو سلم وقال : أسررت ونسيت الجهر لم تجب الإعادة ، لكن قالوا تستحب ، ولو بان أميا في أثناء الصلاة ، وقلنا تجب الإعادة بطلت صلاته وإلا فكالمحدث فينوي مفارقته ويتم صلاته ; واتفقوا على أنه لو صلى صلاة سرية خلف من لا يعرف في القراءة صحت صلاته ; نص عليه في الأم .




                                      الخدمات العلمية