الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كثرت الأواني وكثر المجتهدون فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء وتوضأ به وتقدم أحدهم وصلى بالباقين الصبح وتقدم آخر وصلى [ ص: 250 ] بهم الظهر وتقدم آخر وصلى بهم العصر فكل من صلى خلف إمام يجوز أن يكون طاهرا فصلاته خلفه صحيحة وكل من صلى خلف إمام يعتقد أنه نجس فصلاته خلفه باطلة ) .

                                      [ ص: 253 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : هذه المسألة كثيرة الفروع مختلف في أصلها ، وقد ذكرها المصنف مختصرة جدا فنذكر صورة الكتاب مع التنبيه على قاعدة المذهب ثم فروعها إن شاء الله تعالى . فصورة الكتاب أن يكون هناك ثلاثة من الأواني طاهران ونجس واشتبهت ، فاجتهد فيها ثلاثة رجال فأدى اجتهاد كل واحد إلى طهارة إناء فاستعمله ثم صلى أحدهم بصاحبيه الصبح ثم آخر بصاحبيه الظهر ثم الآخر العصر وكلهم صلوا الصلوات بتلك الطهارة ففي المسألة ثلاثة أوجه حكاها أصحابنا الخراسانيون أصحها وهو قول ابن الحداد وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والمتولي من الخراسانيين أنه يصح لكل واحد الصلاة التي أم فيها والاقتداء الأول ويبطل الاقتداء الثاني .

                                      ( والوجه الثاني ) يصح لكل واحد التي أم فيها فقط ولا يصح له اقتداء أصلا ، وهذا قول أبي العباس بن القاص صاحب التلخيص لأن المقتدي يعتقد أن أحد إماميه محدث فهو شاك في أهلية كل واحد منهما للإمامة فأشبه الخنثى ، وهذا القياس على الخنثى ضعيف . والفرق أن صاحب الإناء الذي هو الإمام يظن أهليته للإمامة باجتهاده بخلاف الخنثى فإنه لا يظن أهلية نفسه لإمامة الرجال فنظير صاحب الإناء أن يكون الخنثى قد ظن كونه رجلا بعلامة كالبول وغيره ، أو بميله إلى النساء وحينئذ يصح اقتداء الرجل به قطعا . ( والوجه الثالث ) وهو قول أبي إسحاق المروزي : تصح لكل واحد التي أم فيها ويصح الاقتداء الأول إن اقتصر عليه ، فلو اقتدى بعد ذلك بالآخر بطلت إحدى صلاتيه خلفهما لا بعينها فيلزمه إعادتهما كمن نسي صلاة من صلاتين ، فاتفق ابن القاص والمروزي على وجوب إعادة الصلاتين إذا اقتدى اقتداءين ، واختلفا إذا اقتصر على اقتداء فأوجب الإعادة ابن القاص لا المروزي ، واتفق ابن الحداد والمروزي على صحة الاقتداء الأول إذا اقتصر [ ص: 251 ] عليه واختلفا إذا اقتدى ثانيا فقال ابن الحداد : يتعين الثاني للبطلان . وقال المروزي : يجب إعادتهما جميعا وعلى الأوجه كلها يصح لكل واحد الصلاة التي أم فيها بلا خلاف ، وشذ صاحب البيان فحكى وجها أن صلاة إمام العصر في المثال المذكور باطلة في حقه لأنه لما صلى خلف إمامي الصبح والظهر صار كأنه اعترف بأنهما الطاهران فتعين هو للنجاسة . وهذا خيال عجيب وعجب ممن قال هذا وكيف يقال هذا ؟ فإنه لو اعتقد نفسه نجسا كانت صلاته كلها سواء ، وهذا الوجه خطأ صريح ، إنما أذكر مثله للتنبيه على بطلانه لئلا يغتر . به ثم لا تفريع عليه وما أذكره بعد هذا تفريع على المذهب .



                                      قال أصحابنا : ولو اشتبهت أوان والطاهر واحد والباقي نجسات فصلاة كل إمام صحيحة فيما أم فيه باطلة في الاقتداء كله ، خلافا لأبي ثور كما سبق ولو كان الطاهر اثنين والنجس اثنين وصلى كل واحد صلاة فصلاة الأئمة صحيحة بلا خلاف ، وأما الاقتداء ففيه الأوجه ، فعلى قول ابن الحداد وهو الأصح صلاة الصبح صحيحة للجميع وصلاة الظهر صحيحة لإمامها وإمام الصبح ، باطلة في حق الباقين ، وصلاتا العصر والمغرب صحيحتان لإماميهما ، باطلة للمأمومين . وعلى قول ابن القاص لا يصح إلا ما أم فيها ، وعلى قول المروزي يصح الاقتداء الأول إن اقتصر عليه فإن اقتدى ثانيا بطل جميع ما اقتدى فيه ، ولو كان الطاهر ثلاثة وواحدا نجسا وصلوا كما ذكرنا ، فالصبح والظهر صحيحتان في حق الجميع ، والعصر صحيحة في حق غير إمام المغرب ، والمغرب باطلة في حق غير إمامها ، هذا قول ابن الحداد ، وعلى قول ابن القاص : لا يصح الاقتداء مطلقا ، والمروزي يصحح اقتضاءين إن اقتصر عليهما وإلا بطل جميع اقتدائه . ولو كانت خمسة فإن كان الطاهر واحدا والباقي نجسا لم يصح إلا ما أم فيها بلا خلاف ، وإن كان الطاهر اثنين صحت الصبح للجميع والظهر لإمامها وإمام الصبح وتبطل للباقين ، والعصر والمغرب والعشاء باطلات إلا في حق أئمتها ، ولو كان الطاهر ثلاثة صحت الصبح والظهر للجميع والعصر لإمامها وإمامي الصبح والظهر فقط ، وبطلت المغرب والعشاء إلا لإماميهما . ولو كان الطاهر أربعة صحت الصلوات كلها إلا المغرب في حق إمام العشاء [ ص: 252 ] وإلا العشاء في حق غير إمامها ، هذا الذي ذكرناه في الخمسة مذهب ابن الحداد ولا يخفى تفريع الآخرين . ولو كثرت الأواني والمجتهدون لم يخف حكمهم وتخريج مسائلهم على ما ذكرنا ، وضابطه على قول ابن الحداد يصح لكل واحد ما أم فيه ومن اقتدى به الأول فالأول بعدد بقية الطاهر . قال أصحابنا : ولو جلس رجلان فسمع منهما صوت حدث فتناكراه فهو كمسألة الإناءين فتصح صلاة كل واحد في الظاهر ولا يصح اقتداؤه بصاحبه . ولو كانوا ثلاثة فسمع بينهم صوت تناكروه فهو كمسألة الأواني الثلاثة وفيها المذاهب فعند ابن القاص لا يصح اقتداء ، وعند ابن الحداد يصح الاقتداء للأول والمروزي يصحح الاقتداء الأول إن اقتصر عليه وإلا فيعيدهما ولو كانوا أربعة أو خمسة فعلى ما سبق في الآنية حرفا حرفا ، هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وبه قطع الجمهور ، وذكر الشيخ أبو محمد الجويني والمتولي وجها أنه لا يصح الاقتداء هنا وإن صح في الآنية لتيسر الاجتهاد في الآنية دون الأشخاص في الحدث . قال إمام الحرمين : وقد يفرض زيادة في الآنية وهي أن الخمسة لو اجتهدوا في الآنية الخمسة - والنجس واحد - فأدى اجتهاد أحدهم إلى طهارة إناء فتوضأ به واجتهد في بقيتها فعين النجس باجتهاده ، فمن استعمل هذا النجس لا يقتدي به هذا الإنسان ويصح اقتداؤه بالباقين بلا خلاف كيف كان ، يعني ولا إعادة . قال : ولا يتأتى هذا في مسألة الحدث إذ ليس هناك اجتهاد ولا تمسك بدلالة يعول عليها ، قال : فإن تكلف متكلف وفرض فيه علامات ظنية استوى البابان فيما ذكرناه الآن والله أعلم .

                                      ( فرع ) : ذكر الشيخ أبو حامد وصاحباه القاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي وغيرهم هنا مسألة ذات فروع تشبه هذه التي نحن فيها ، وذكرها كثيرون في آخر صفة الوضوء ، وقد رأيت تقديمها تأسيا بهؤلاء الأئمة ومسارعة إلى الخيرات قبل حلول المنية وغيرها من الآفات ، وكان عادة القاضي حسين إذا ذكر مسألة ذكر معها كل ما له تعلق بها وما يشبهها ونعمت الخصلة .



                                      [ ص: 253 ] قال أصحابنا رحمهم الله : إذا توضأ للظهر عن حدث وصلاها ثم توضأ للعصر عن حدث وصلاها ثم تيقن أنه نسي مسح الرأس أو فرضا من فروض الطهارة من إحدى الطهارتين ولم يعرف عينها لزمه إعادة الصلاتين لأن إحداهما باطلة وقد جهلها فهو كمن نسي صلاة من صلاتين ، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا . وأما الطهارة فهي مبنية على تفريق الوضوء ، فإن قلنا بالقول الصحيح الجديد أن تفريق الوضوء جائز مسح رأسه ثم غسل رجليه وتمت طهارته ، وإن قلنا بالقديم : إن تفريق الوضوء يبطله ، استأنف الطهارة ، ولو توضأ للظهر عن حدث فصلاها ثم حضرت العصر فجدد الوضوء ولم يحدث وصلى العصر ثم تيقن ترك مسح الرأس في إحدى طهارتيه وجهلها ، فهذه المسألة تبنى على أصلين أحدهما تفريق الوضوء والآخر أن التجديد هل يرفع الحدث ؟ وفيهما خلاف فنذكر الطهارة ثم الصلاة . فأما الطهارة فإن قلنا : التجديد يرفع الحدث فهو الآن متطهر طهارة صحيحة ، إما الأولى وإما الثانية ، وإما بعضها من الأولى وبعضها من الثانية ، لأنه إن تركه من الثانية فالأولى صحيحة ، وإلا فالثانية إن قلنا لا يجوز التفريق ، وإن جوزناه حصل الوجه واليدان من الأولى ، والرأس والرجلان من الثانية ، وإن قلنا بالمذهب الصحيح أن التجديد لا يرفع الحدث بني على التفريق ، فإن قلنا : لا يجوز استأنف الطهارة ، وإن قلنا : يجوز بني على أنه فرق هل يحتاج إلى نية أخرى لباقي الأعضاء ؟ وفيه وجهان ( أصحهما ) لا يحتاج بل تكفيه النية السابقة . فإن قلنا يحتاج إلى نية جديدة انبنى على أن تفريق النية على الأعضاء هل يجوز أم لا ؟ وفيه وجهان أصحهما يجوز ، فإن قلنا : يجوز بني على طهارته في مسح رأسه ثم يغسل رجليه ، وإن قلنا : تكفيه النية السابقة انبنى على أن من ترك لمعة من عضوه في الغسلة الأولى فانغسلت في الثانية هل يرتفع حدثه ؟ وفيه وجهان أصحهما نعم ، فإن قلنا : لا يرتفع فهو كما إذا قلنا لا تكفيه النية السابقة ، وإن قلنا يرتفع في مسألة اللمعة ففي التجديد وجهان ( أحدهما ) هو كاللمعة ( والثاني ) الجزم بأنه لا يرتفع ، وهذه الأوجه والمسائل المبني عليها ستأتي في باب صفة الوضوء وباب نيته إن شاء الله تعالى واضحة مبسوطة .

                                      [ ص: 254 ] والحاصل للفتوى من هذا الخلاف أنه يبنى على طهارته فيمسح رأسه ثم يغسل رجليه بناء على الراجح في جميع هذه الأصول . هذا حكم الطهارة . وأما الصلاة فيجب إعادة الظهر بلا خلاف بين أصحابنا ، لأنا شككنا في فعلها بطهارة ، والأصل بقاؤه عليه ، وأما العصر فمبنية على الطهارة فإن قلنا طهارته الآن صحيحة فعصره صحيح ، وإن قلنا يجب استئنافها أو البناء عليها بمسح الرأس وغسل الرجلين وجب إعادة العصر ، هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه . وقد يقال : كيف جزموا بوجوب إعادة الظهر وقد حصل الشك فيها بعد الفراغ منها ، ومن شك في ترك سجدة من الصلاة بعد الفراغ لا شيء عليه . بل صلاته صحيحة على المذهب الصحيح وبه قطع المصنف وسائر العراقيين كما هو معروف في باب سجود السهو . والجواب أن هذه المسألة ليست كتلك ، والفرق من وجهين ( أحدهما ) أن الطهارة شرط الصلاة وشككنا هل أتى به أم لا ؟ وعلى تقدير أن لا يكون أتى به لم يدخل في الصلاة فشككنا هل دخل فيها أم لا ؟ والأصل عدم الدخول ولم يعارض هذا الأصل في شيء آخر ، وأما مسألة ترك السجدة فقد تعين فيها الدخول في الصلاة وشك بعد الفراغ في أنه جرى مبطل أم لا ، والأصل عدم مبطل ، والظاهر مضيها على الصحة . الفرق الثاني أن الشك في ترك السجدة ونحوها تعم به البلوى فعفي عنه بخلاف الطهارة ، هذا تحرير المسألة وقد ذكرها جماعة ناقصة ، وأحسنهم لها ذكرا القاضي أبو الطيب في تعليقه . ولو توضأ الصبح عن حدث فصلاها ثم جدد للظهر ثم توضأ للعصر عن حدث ثم جدد للمغرب ثم توضأ للعشاء عن حدث ثم علم أنه ترك مسحا في إحدى الطهارات " وجب إعادة كل صلاة صلاها بطهارة حدث بلا خلاف ، وفي التي صلاها بعد تجديد الخلاف التفصيل السابق ولو توضأ عن حدث وصلى الصبح ثم نسي أنه توضأ وصلى فتوضأ ثانيا وصلى ثم علم أنه ترك مسحا في إحدى الطهارتين " وسجدة من إحدى الصلاتين ولم يعلم محلهما فطهارته الآن صحيحة بلا خلاف ، [ ص: 255 ] ويلزمه إعادة الصلاة لاحتمال أنه ترك المسح في الطهارة الأولى والسجدة من الصلاة الثانية ، ذكره صاحب العدة وهو واضح والله أعلم .

                                      ( فرع ) ومما ذكره إمام الحرمين وغيره متصلا بهذه وهو مما يشبهها : اقتدى شافعي بحنفي وعكسه وفيه خلاف وتعم به البلوى ، والأكثرون ذكروه في باب صفة الأئمة ، وأنا أرى تقديمه موافقة للإمام ومسارعة إلى الخير ، لكني أذكرها مختصرة فإن وصلت باب صفة الأئمة بسطتها إن شاء الله تعالى . قال إمام الحرمين : كان شيخي يذكر هاهنا اقتداء الشافعي بالحنفي قال : ونحن نذكره . فإذا توضأ حنفي واقتدى به شافعي ، والحنفي لا يعتقد . وجوب نية الوضوء والشافعي يعتقدها فثلاثة أوجه ( أحدها ) وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني لا يصح اقتداؤه ، نوى أو لم ينو ، لأنه وإن نوى فلا يراها واجبة فهي كالمعدومة فلا تصح طهارته ( والثاني ) وهو قول القفال يصح وإن لم ينو لأن كل واحد مؤاخذ بموجب اعتقاده والاختلاف في الفروع رحمة ( والثالث ) وهو قول الشيخ أبي حامد الإسفراييني إن نوى صح وإلا فلا . فهذه الأوجه مشهورة ، والمختار وجه رابع سنذكره مع غيره من فروع المسألة إن شاء الله تعالى في باب صفة الأئمة ، وهو أنه يصح الاقتداء بالحنفي ، ونحوه إلا أن يتحقق إخلاله بما نشترطه ونوجبه ، وهذه الأوجه جارية في صلاة الشافعي خلف حنفي وغيره على وجه لا يراه الشافعي ويراه ذلك المصلي بأن أبدل الفاتحة أو لم يطمئن أو مس فرجا أو امرأة ، فعند الأستاذ أبي إسحاق وأبي حامد صلاة الشافعي خلفه باطلة اعتبارا باعتقاد المأموم ، وعند القفال صحيحة اعتبارا باعتقاد الإمام . قال البغوي : ولو صلى الحنفي على خلاف مذهبه مما يصححه الشافعي بأن اقتصد ولم يتوضأ أو توضأ بماء قدر قلتين وقعت فيه نجاسة لم تغيره فاقتدي به شافعي فعند القفال لا يصح اعتبارا باعتقاد الإمام ، وعند أبي حامد يصح اعتبارا باعتقاد المأموم ، قال الإمام ولو وجد شافعي وحنفي نبيذ تمر [ ص: 256 ] ولم يجدا ماء فتوضأ به الحنفي وتيمم الشافعي ، واقتدى أحدهما بالآخر فصلاة المأموم باطلة لأن كل واحد يرى بطلان صلاة صاحبه فأشبه الرجلين إذا سمع منهما صوت حدث تناكراه ، ومن هذا القبيل الماء الذي يتوضأ به حنفي هل هو مستعمل ؟ وقد قدمناه في بابه والله أعلم .



                                      ( فرع ) : في مسائل تتعلق بالباب لم يذكرها المصنف أحدها قال القاضي حسين في تعليقه : لو كان له غنم فاختلطت بغنم غيره أو اختلطت رحله برحال غيره أو حمامه بحمام غيره فله التحري وكذا قال البغوي : لو اختلطت شاته أو حمامه بشاة غيره وحمامه فله أخذ واحدة بالاجتهاد ، فإن نازعه من في يده فالقول قول صاحب اليد ، وذكر المتولي والروياني في شاته وثوبه المختلطين وجهين في جواز الاجتهاد به .



                                      الثانية : قال أصحابنا إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا خلاف سواء كن محصورات أو غير محصورات ; لأن الأصل التحريم ، والأبضاع يحتاط لها والاجتهاد خلاف الاحتياط ،



                                      ولو اشتبهت أخته من الرضاع أو النسب أو غيرها من محارمه بنسوة فإن كن غير محصورات كنسوة بلد كبير فله أن ينكح واحدة منهن بلا خلاف ، ولا يفتقر إلى اجتهاد كما لو غصبت شاة وذبحت في بلد لا يحرم اللحم بسببها لانغمارها في غيرها ، وإن كن محصورات كقرية صغيرة فوجهان ، الصحيح لا يجوز نكاح واحدة منهن ولو اجتهد ، والثاني يجوز سواء اجتهد أم لا وهذان الوجهان حكاهما الإمام وغيره في كتاب النكاح .



                                      الثالثة : إن اختلطت ميتة بمذكيات بلد أو إناء بول بأواني بلد ، فله أكل بعض المذكيات والوضوء ببعض الأواني . وهذا لا خلاف فيه ، وإلى أي حد ينتهي ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب البحر ( أحدهما ) إلى أن يبقى واحد كما لو حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير ، فإنه يأكل الجميع إلا تمرة ولا يحنث ( والثاني ) يجوز إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز ولم يرجح واحدا من الوجهين والمختار الأول ، وقد جزم صاحب التتمة بمثله فيما لو خفي عليه موضع النجاسة من أرض ونحوها وسنوضح المسألة في باب طهارة البدن إن شاء الله تعالى



                                      [ ص: 257 ] الرابعة : حكى صاحب البحر عن القاضي حسين أنه قال : لو كان له دنان في أحدهما دبس وفي الآخر خل ، واغترف منهما في إناء واحد ثم رأى في الإناء فأرة ميتة لا يعلم من أيهما هي تحرى في الدنين . فإذا أدى اجتهاده إلى طهارة أحدهما ونجاسة الآخر ، فإن كان اغترف بمغرفتين فالذي أدى اجتهاده إلى طهارته طاهر ، والآخر نجس ، وإن كان بمغرفة واحدة فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة كانت في الثاني فالأول باق في طهارته ، وإن ظهر أنها كانت في الأول فهما نجسان .



                                      الخامسة : إذا اشتبه الماءان فتوضأ بأحدهما من غير اجتهاد وقلنا بالمذهب : إنه لا يجوز من غير اجتهاد فبان أن الذي توضأ به طاهر ، فقد حكى الشاشي في كتابيه المستظهري ثم المعتمد أنه لا يصح وضوءه في اختيار الشيخ أبي إسحاق المصنف لأنه متلاعب فهو كالمصلي إلى جهة بغير اجتهاد ، فإنه لا تصح صلاته بالاتفاق وإن وافق القبلة . وكذا من صلى شاكا في دخول الوقت بلا اجتهاد فوافقه لا تصح صلاته . قال : واختيار ابن الصباغ أنه يصح وضوءه لأن المقصود إصابة الطاهر وقد حصل ، قال الشاشي : وهذا يلزم عليه القبلة ويمكنه أن يعتذر بأنه شرع في الصلاة شاكا في شرطها ، فوازنه لو صلى هنا قبل بيان طهارة الذي توضأ به فإنه لا تصح صلاته بالاتفاق ، قال : ويجاب عن هذا بأن الطهارة في نفسها عبادة وقد شرع فيها شاكا في شرطها فكان متلاعبا .

                                      ( قلت ) وقد قطع الغزالي في فتاويه بصحة وضوئه والمختار بطلان وضوئه والله أعلم .



                                      فصل تقدم في أول الباب الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم { لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } فقال : أصحابنا : نبه صلى الله عليه وسلم على أن الأصل واليقين لا يترك حكمه بالشك ، وهذه قاعدة [ ص: 258 ] مطردة لا يخرج منها إلا مسائل يسيرة لأدلة خاصة على تخصيصها . وبعضها إذا حقق كان داخلا فيها ، وسأذكرها الآن إن شاء الله تعالى . فعلى هذه القاعدة لو كان معه ماء أو مائع آخر من لبن أو عسل أو دهن أو طبيخ أو ثوب أو عصير أو غيرها مما أصله الطهارة وتردد في نجاسته فلا يضر تردده وهو باق على طهارته ، وسواء كان تردده بين الطهارة والنجاسة مستويا أو ترجح احتمال النجاسة إلا على قول ضعيف حكاه الخراسانيون أنه إذا غلب على ظنه النجاسة حكم بها والصحيح ما سبق



                                      وكذا لو شك في طلاق أو عتق أو حدث أو طهارة أو حيض زوجته وأمته فله البناء على الأصل ولا يلزمه شيء ، هذا كله ما لم يستند الظن إلى سبب معين فإن استند كمسألة بول الحيوان في ماء كثير إذا تغير ومسألة المقبرة المشكوك في نبشها وثياب المتدينين باستعمال النجاسة وغير ذلك فلها أحكام معروفة ففي بعضها يعمل بالظاهر بلا خلاف كمسألة بول الحيوان وشهادة شاهدين فإنها تفيد الظن وتقدم على أصل براءة الذمة بلا خلاف وفي بعضها قولان كمسألة المقبرة ونحوها . وقد ذكر المصنف في آخر باب الآنية في آنية الكفار المتدينين باستعمال النجاسة وجهين ( أحدهما ) أنه محكوم بنجاستها عملا بالظاهر ( والثاني ) بطهارتها عملا بالأصل ، وهذا الثاني هو الأصح عند الأصحاب . قال جماعة من الأصحاب هذا الخلاف مبني على الخلاف في المقبرة المشكوك في نبشها قالوا : ومأخذ الخلاف أنه تعارض أصل وظاهر فأيهما يرجح فيه هذا الخلاف . وبالغ جماعات من الخراسانيين في التخريج على هذا فأجروا قولين في الحكم بنجاسة ثياب مدمني الخمر والقصابين وشبههم ممن يخالط النجاسة ولا يتصون منها مسلما كان أو كافرا ، وطردوها في طين الشوارع الذي يغلب على الظن نجاسته ، وأبعد بعضهم فطردها في ثياب الصبيان وزاد بعضهم فقال : هل تثبت النجاسة بغلبة الظن فيه قولان ، والراجح المختار في هذا كله طريقة العراقيين وهي القطع بطهارة هذا أو شبهه وقد نص الشافعي على طهارة [ ص: 259 ] ثياب الصبيان في مواضع . وذكر جماعة من متأخري أصحابنا الخراسانيين أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان ففيها قولان .

                                      وممن ذكر هذه القاعدة القاضي حسين وصاحباه صاحب التتمة والقاضي أبو سعد الهروي في كتابه الأشراف على غوامض الحكومات . وهذا الإطلاق الذي ذكروه ليس على ظاهره ، ولم يريدوا حقيقة الإطلاق فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظن بلا خلاف بشهادة عدلين فإنها تفيد الظن ويعمل بها بالإجماع ، ولا ينظر إلى أصل براءة الذمة ، وكمسألة بول الحيوان وأشباهها ، ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف كمن ظن أنه طلق أو أحدث أو أعتق أو صلى أربعا لا ثلاثا فإنه يعمل فيها كلها بالأصل وهو البقاء على الطهارة وعدم الطلاق والعتق والركعة الرابعة وأشباهها بل الصواب في الضابط ما حرره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فقال : إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر وجب النظر في الترجيح كما في تعارض الدليلين . فإن تردد في الراجح فهي مسائل القولين وإن ترجح دليل الظاهر حكم به كإخبار عدل بالنجاسة ، وكبول الصبية ، وإن ترجح دليل الأصل حكم به بلا خلاف ، هذا كلام أبي عمرو قال إمام الحرمين ما يتردد في طهارته ونجاسته مما أصله الطهارة ثلاثة أقسام : ( أحدها ) : ما يغلب على الظن طهارته ، فالوجه الأخذ بطهارته ، ولو أراد الإنسان طلب يقين الطهارة فلا حرج بشرط أن لا ينتهي إلى الوسواس الذي ينكد عيشه ويكدر عليه وظائف العبادات ، فإن المنتهى إلى ذلك خارج عن مسالك السلف الصالحين ، قال والوسوسة مصدرها الجهل بمسالك الشريعة أو نقصان في غريزة العقل .

                                      ( القسم الثاني ) : ما استوى في طهارته ونجاسته التقديران فيجوز الأخذ بطهارته ولو تركه الإنسان كان محتاطا .

                                      ( الثالث ) : ما يغلب على الظن نجاسته ففيه قولان للشافعي ( أحدهما ) طهارته ( والثاني ) نجاسته .

                                      ( قلت ) : هذا الذي أطلقه من القولين ليس على إطلاقه بل هو ما سبق تفصيله والله أعلم . .



                                      [ ص: 260 ] فرع ) : اعلم أن للشيخ أبي محمد الجويني رحمه الله كتاب التبصرة في الوسوسة وهو كتاب نافع كثير النفائس وسأنقل منه مقاصده إن شاء الله تعالى في مواضعها من هذا الكتاب ، واشتد إنكار الشيخ أبي محمد في كتابه هذا على من لا يلبس ثوبا جديدا حتى يغسله لما يقع ممن يعاني قصر الثياب وتجفيفها وطيها من التساهل وإلقائها وهي رطبة على الأرض النجسة ومباشرتها لما يغلب على القلب نجاسته ولا يغسل بعد ذلك ، قال وهذه طريقة الحرورية الخوارج ابتلوا بالغلو في غير موضعه ، وبالتساهل في موضع الاحتياط ، قال : ومن سلك ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر المسلمين فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجديدة قبل غسلها ، وحال الثياب في ذلك في أعصارهم كحالها في عصرنا بلا شك . ثم قال : أرأيت لو أمرت بغسلها أكنت تأمن في غسلها أن يصيبها مثل هذه النجاسة المتوهمة ؟ فإن قلت : أنا أغسلها بنفسي فهل سمعت في ذلك خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة أنهم وجهوا على الإنسان على سبيل الإيجاب أو الندب أو الاحتياط غسل ثوبه بنفسه احترازا من أوهام النجاسة .



                                      ( فرع ) : قال أبو محمد في التبصرة : نبغ قوم يغسلون أفواههم إذا أكلوا خبزا ويقولون الحنطة تداس بالبقر وهي تبول وتروث في المداسة أياما طويلة ولا يكاد يخلو طحين ذلك عن نجاسته ، قال : وهذا مذهب أهل الغلو والخروج عن عادة السلف ، فإنا نعلم أن الناس في الأعصار السالفة ما زالوا يدرسون بالبقر كما يفعل أهل هذا العصر ، وما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وسائر ذوي التقوى والورع أنهم رأوا غسل الفم من ذلك . هذا كلام الشيخ أبي محمد ، قال الشيخ أبو عمرو : والفقه في ذلك أن ما في أيدي الناس من القمح المتنجس بذلك قليل جدا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة فقد اشتبه إذن واختلط قمح قليل نجس بقمح طاهر لا ينحصر ، ولا منع من ذلك بل يجوز التناول من أي موضع أراد ، كما لو اشتبهت أخته بنساء لا ينحصرن فله نكاح من شاء منهن ، وهذا أولى [ ص: 261 ] بالجواز . وفي كلام الأستاذ أبي منصور البغدادي في شرحه للمفتاح إشارة إلى أنه وإن تعين ما سقط الروث عليه في حال الدراس فمعفو عنه لتعذر الاحتراز عنه .



                                      ( فرع ) : قال الشيخ أبو محمد في التبصرة : لو أصاب ثوبه أو غيره شيء من لعاب الخيل والبغال والحمير وعرقها جازت صلاته فيه قال لأنها وإن كانت لا تزال تتمرغ في الأمكنة النجسة وتحك بأفواهها قوائمها التي لا تخلو من النجاسة فإنا لا نتيقن نجاسة عرقها ولعابها لأنها تخوض الماء الكثير وتكرع فيه كثيرا فغلبنا أصل الطهارة في لعابها وعرقها قال : ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر المسلمين بعدهم يركبون الخيل والبغال والحمير في الجهاد والحج وسائر الأسفار ولا يكاد ينفك الراكب في مثل ذلك عن أن يصيبه شيء من عرقها أو لعابها وكانوا يصلون في ثيابهم التي ركبوا فيها ، ولم يعدوا ثوبين ثوبا للركوب وثوبا للصلاة والله أعلم .



                                      ( فرع ) سئل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه عن خرج حكي أن الكفار الذين يعملونها يجعلون فيها شحم خنزير واشتهر ذلك عنهم من غير تحقيق فقال إذا لم يتحقق فيما بيده نجاسة لم يحكم بالنجاسة ، وسئل عن بقل في أرض نجسة أخذه البقالون وغسلوه غسلا لا يعتمد عليه في التطهير هل يحكم بنجاسة ما يصيبه في حال رطوبته ؟ فقال : إذا لم يتحقق نجاسة ما أصابه من البقل بأن احتمل أنه مما ارتفع عن منبته النجس لم يحكم بنجاسة ما أصابه من ذلك لتظاهر أصلين على طهارته . وسئل عن الأوراق التي تعمل وتبسط وهي رطبة على الحيطان المعمولة برماد نجس وينسخ فيها ويصيب الثوب من ذلك المراد الذي يكتب به فيها مع عموم البلوى فقال : لا يحكم بنجاسته . وسئل عن قليل قمح بقي في سفل هري ، وقد عمت البلوى ببعر الفأرة في أمثال ذلك فقال ما معناه : أنه لا يحكم بنجاسة ذلك إلا أن يعلم نجاسة في هذا الجب المعين والله أعلم .



                                      ( فرع ) : قال إمام الحرمين وغيره : في طين الشوارع الذي يغلب على الظن نجاسته قولان أحدهما : يحكم بنجاسته ، والثاني بطهارته بناء على [ ص: 262 ] تعارض الأصل والظاهر ، قال الإمام : كان شيخي يقول : وإذا تيقنا نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين فإن الناس لا بد لهم من الانتشار في حوائجهم ، فلو كلفناهم الغسل لعظمت المشقة ، ولهذا عفونا عن دم البراغيث والبثرات ، قال الإمام : وكان شيخي يقول : القليل المعفو عنه ما لا ينسب صاحبه إلى كبوة أو عثرة أو قلة تحفظ عن الطين . .



                                      ( فرع ) : ماء الميزاب الذي يظن نجاسته ولا يتيقن طهارته ولا نجاسته ، قال المتولي والروياني : فيه القولان في طين الشوارع ، وهذا الذي ذكره فيه نظر والمختار الجزم بطهارته لأنه إن كان هناك نجاسة انغسلت .



                                      ( فرع ) قد سبق أن الشافعي رحمه الله نص على طهارة ثياب الصبيان في مواضع ، ويدل له { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة رضي الله عنها وهي طفلة } ، رواه البخاري ومسلم وكذا يجوز مؤاكلة الصبيان في إناء واحد من طبيخ وسائر المائعات وأكل فضل مائع أكل منه صبي وصبية ما لم يتيقن نجاسة يده ، فإن يده محمولة على الطهارة حتى يتحقق نجاستها ، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع الصبي طبيخا ، ولم تزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم على ذلك من غير إنكار ، وكذا ريق الصبي وإن كان يكثر منه وضع النجاسة في فمه فهو محمول على الطهارة حتى تتيقن نجاسته .



                                      ( فرع ) : هذا الذي ذكرناه كله فيما علم أن أصله الطهارة وشك في عروض نجاسته ، أما ما جهل أصله فقد ذكر المتولي فيه مسائل يقبل منه بعضها وينكر بعض ، فقال : لو كان معه إناء لبن ولم يدر أنه لبن حيوان مأكول أو غيره أو رأى حيوانا مذبوحا ولم يدر أذبحه مسلم أم مجوسي ؟ أو رأى قطعة لحم وشك هل هي من مأكول أو غيره ؟ أو وجد نباتا ولم يدر هل هو سم قاتل أم لا ؟ فلا يباح له التناول في كل هذه الصور ، لأنه يشك في الإباحة ، والأصل عدمها . هذا كلام المتولي . فأما مسألة المذكاة وقطعة اللحم فعلى ما ذكر لأنها إنما تباح بذكاة أهل الذكاة ، وشككنا في ذلك والأصل عدمه ، وأما مسألة النبات واللبن وشبههما [ ص: 263 ] فيتعين إجراؤها على الخلاف المشهور لأصحابنا في أصول الفقه وكتب المذهب أن أصل الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة أم التحريم أم لا حكم قبل ورود الشرع ؟ وفيه ثلاثة أوجه مشهورة الصحيح منها عند المحققين لا حكم قبل ورود الشرع ولا يحكم على الإنسان في شيء يفعله بتحريم ولا حرج ، ولا نسميه مباحا لأن الحكم بالتحريم والإباحة من أحكام الشرع ، فكيف يدعي ذلك قبل الشرع . ومذهبنا ومذهب سائر أهل السنة أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع ، وأن العقل لا يثبت شيئا ، فإن قلنا بالتحريم فهو كما قال المتولي لأن الأصل التحريم وإن قلنا بالصحيح فهو حلال حتى يتحقق سبب التحريم . ويشبه هذا ما ذكره المصنف وأصحابنا في باب الأطعمة فيما إذا وجدنا حيوانا لا يعرف أهو مأكول أم لا ؟ ولا تستطيبه العرب ولا تستخبثه ولا نظير له في المستطاب والمستخبث فهل يحل أكله ؟ فيه وجهان مشهوران لأصحابنا بناهما الأصحاب على هذه القاعدة التي ذكرناها . وأما مسألة قطعة اللحم فقد أطلق المتولي الحكم بتحريمها وقال شيخه القاضي حسين في تعليقه فيها تفصيلا حسنا فقال : لو وجد قطعة لحم ملقاة وجهل حالها ، فإن كانت ملقاة على الأرض غير ملفوفة بخرقة ونحوها فالظاهر . أنها ميتة وقعت من طائر ونحوه فتكون حراما ، وإن كانت في مكتل أو خرقة ونحوهما فالظاهر أنها مذكاة فتكون حلالا إلا إذا كان في البلد مجوس واختلطوا بالمسلمين فلا تباح والله أعلم .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا في أول هذا الفصل المتعلق بالشك في الأشياء أن حكم اليقين لا يزال بالشك إلا في مسائل يسيرة خرجت لأدلة خاصة على تخصيصها ، وبعضها إذا حقق كان داخلا فيها ، وقد اندرج من تلك المسائل جملة فيما سبق في هذا الفصل كمسألة الصبية ونحوها فقد ذكر أبو العباس بن القاص في كتابه التلخيص أن كل من شك في شيء هل فعله أم لا ؟ فهو غير فاعل في الحكم ولا يزال حكم اليقين بالشك إلا في إحدى عشرة مسألة .

                                      ( إحداها ) إذا شك ماسح الخف هل انقضت المدة أم لا [ ص: 264 ] والثانية ) شك هل مسح في الحضر أم في السفر ؟ يحكم في المسألتين بانقضاء المدة .

                                      ( الثالثة ) إذا أحرم المسافر بنية القصر خلف من لا يدري أمسافر هو أم مقيم ؟ لم يجز القصر .

                                      ( الرابعة ) بال حيوان في ماء كثير فوجده متغيرا ولم يدر أتغير بالبول أم بغيره ؟ فهو نجس .

                                      ( الخامسة ) المستحاضة المتحيرة يلزمها الغسل عند كل صلاة تشك في انقطاع الدم قبلها .

                                      ( السادسة ) من أصابته نجاسة في بدنه أو ثوبه وجهل موضعها يلزمه غسله كله .

                                      ( السابعة ) شك مسافر أوصل بلده أم لا ؟ لا يجوز له الترخص .

                                      ( الثامنة ) شك مسافر هل نوى الإقامة أم لا ؟ لا يجوز له الترخص .

                                      ( التاسعة ) المستحاضة وسلس البول إذا توضأ ثم شك هل انقطع حدثه أم لا فصلى بطهارته ، لم تصح صلاته .

                                      ( العاشرة ) تيمم ثم رأى شيئا لا يدري أسراب هو أم ماء ؟ بطل تيممه وإن بان سرابا .

                                      ( الحادية عشرة ) رمى صيدا فجرحه ثم غاب فوجده ميتا وشك هل أصابته رمية أخرى من حجر غيره ؟ لم يحل أكله وكذا لو أرسل عليه كلبا .

                                      هذه مسائل صاحب التلخيص ، قال القفال في شرحه للتلخيص : قد خالفه أصحابنا في هذه المسائل كلها ، فالمسألة الأولى والثانية في مسح الخف قال أصحابنا : لم يترك فيهما اليقين بالشك ، بل لأن الأصل غسل الرجل وشرط المسح بقاء المدة وشككنا فيه فعملنا بالأصل " الغسل " هذا قول القفال وفيه نظر ، والظاهر قول أبي العباس . قال القفال : وأما المسألة الثالثة فحكمها صحيح لكنه ليس ترك يقين بشك لأن القصر رخصة بشرط ، فإذا لم يتحقق رجع إلى الأصل وهو [ ص: 265 ] الإتمام . قال : وأما الرابعة فحكمها صحيح لكن ليس هو ترك يقين بشك لأن الظاهر تغيره بالبول وهذا فيه نظر ، والظاهر قول أبي العباس أنه ترك الأصل بظاهر وقد سبقت المسألة مستوفاة . قال : وأما الخامسة فحكمها صحيح لكن ليس ترك أصل بشك بل لأن الأصل وجوب الصلاة عليها ، فإذا شكت في انقطاع الدم فصلت بلا غسل لم نستيقن البراءة من الصلاة ، وفي هذا الذي قاله القفال نظر . والظاهر قول أبي العباس . قال : وأما السادسة فليس ترك يقين بشك لأن الأصل أنه ممنوع من الصلاة إلا بطهارة عن هذه النجاسة فما لم يغسل الجميع هو شاك في زوال منعه من الصلاة .

                                      قال : وأما السابعة ففيها وجهان ( أحدهما ) له القصر لأنه شاك في زوال سبب الرخصة والأصل عدمه ( والثاني ) لا يجوز كما قال أبو العباس ولكن ليس ذلك ترك يقين بشك ، وهذا الذي قاله القفال فيه نظر ، والظاهر قول أبي العباس قال : وأما الثامنة فحكمها صحيح ولكن ليس ترك يقين بشك بل الأصل الإتمام فلا يقصر حتى يتيقن سبب الرخصة وفي هذا نظر ، والظاهر قول أبي العباس . وأما التاسعة : فحكمها صحيح لكن ليس ترك يقين بشك لأن المستحاضة لا تحل لها الصلاة مع الحدث إلا للضرورة ، فإذا شكت في انقطاع الدم فقد شكت في السبب المجوز للصلاة مع الحدث فرجعت إلى أصل وجوب الصلاة بطهارة كاملة والظاهر قول أبي العباس . وأما العاشرة : فحكمها صحيح لكن ليس ترك يقين بشك ، وإنما بطل التيمم برؤية السراب لأنه توجه الطلب ، وإذا توجه الطلب بطل التيمم والظاهر قول أبي العباس .

                                      قال : وأما الحادية عشرة : ففي حل الصيد قولان ، فإن قلنا : لا يحل فليس ترك يقين بشك لأن الأصل التحريم ، وقد شككنا في الإباحة ، قال [ ص: 266 ] القفال : فثبت أن هذه المسائل كلها مستمرة على مذهب الشافعي أن اليقين لا يزال بالشك هذا كلام القفال والصواب في أكثرها مع أبي العباس كما ذكرنا وهو ظاهر لمن تأمله .



                                      وقال إمام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء : استثنى صاحب التلخيص مسائل مما يترك فيها اليقين بالشك قال : ونحن نذكر المستفاد منها ونحذف ما لا يشكل ، قال : فمما استثناه أن الناس لو شكوا في انقضاء الوقت يوم الجمعة لم يصلوا جمعة ولم يستصحبوا اليقين ، وذكر الإمام أيضا مسألتي الخف ومسألتي شك المسافر في وصول بلده ونيته الإقامة ، ولم يزد الإمام على ذلك وكذا اقتصر الغزالي على هذه المسائل ونقل خلافا في مسألتي المسافر دون المسح والجمعة . قال الإمام : لعل الفرق أن مدة المسح ووقت الجمعة ليس مما يتعلق باختياره فإذا وقع فيه شك لاح تعين الرد إلى الأصل . وأما وصول دار الإقامة والعزم على الإقامة فمتعلق بفعل الشاك ومنه تتلقى معرفته ، فإذا جهله من نفسه فكأنه لم يقع ذلك المعنى أصلا . قال الإمام على أن الوجه ما ذكره صاحب التلخيص ، هذا آخر كلام الإمام .



                                      ومما لم يستثنه هؤلاء الجماعة إذا توضأ ثم شك هل مسح رأسه مثلا أم لا ؟ وفيه وجهان الأصح صحة وضوئه ، ولا يقال الأصل عدم المسح ، ومثله لو سلم من صلاته ثم شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ؟ ففيه ثلاثة أقوال عند الخراسانيين ( أصحها ) وبه قطع العراقيون لا شيء عليه ومضت صلاته على الصحة ، فإن تكلف متكلف وقال المسألتان داخلتان في القاعدة فإنه شك هل ترك أم لا ؟ والأصل عدمه ، فليس تكلفه بشيء لأن الترك عدم باق على ما كان ، وإنما المشكوك فيه الفعل ، والأصل عدمه ولم يعمل بالأصل .



                                      وأما إذا سلم من صلاته فرأى عليه نجاسة واحتمل حصولها في الصلاة وحدوثها بعدها فلا يلزمه إعادة الصلاة بل مضت على الصحة ، وقد ذكر المصنف المسألة في باب طهارة البدن ، فيحتمل أن يقال : الأصل عدم النجاسة فلا يحتاج إلى استثنائها لدخولها في القاعدة ، ويحتمل أن يقال تحققت النجاسة وشك في انعقاد الصلاة والأصل عدمه وبقاؤها في الذمة فيحتاج إلى استثنائها ، والله أعلم بالصواب وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة .




                                      الخدمات العلمية