الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      ومن آدابه وآداب تعليمه : اعلم أن التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين ، وبه يؤمن إمحاق العلم ، فهو من أهم أمور الدين ، وأعظم العبادات ، وآكد فروض الكفايات ، قال الله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } وقال تعالى : { إن الذين يكتمون ما أنزلنا } الآية .

                                      وفي الصحيح من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ليبلغ الشاهد منكم الغائب } والأحاديث بمعناه كثيرة ، والإجماع منعقد عليه . ويجب على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى لما سبق ، وألا يجعله وسيلة إلى غرض دنيوي ، فيستحضر المعلم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات ، لكون ذلك حاثا له على تصحيح النية ، ومحرضا له . على صيانته من مكدراته ومن مكروهاته ، مخافة فوات هذا الفضل العظيم ، والخير الجسيم . قالوا : وينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية ، فإنه يرجى له حسن النية ، وربما عسر في كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم ، وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية ، فالامتناع من تعليمهم يؤدي إلى تفويت كثير من العلم مع أنه يرجى ببركة العلم تصحيحه إذا أنس بالعلم .

                                      وقد قالوا : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ، معناه كانت عاقبته أن صار لله ، وينبغي أن يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية ، والشيم المرضية ، ورياضة نفسه بالآداب والدقائق الخفية ، وتعوده الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية .

                                      [ ص: 58 ] فأول ذلك أن يحرضه بأقواله وأحواله المتكررات ، على الإخلاص والصدق وحسن النيات ، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات ، وأن يكون دائما على ذلك حتى الممات ، ويعرفه أن بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف ، وينشرح صدره وتنفجر من قلبه ينابيع الحكم واللطائف ، ويبارك له في حاله وعلمه ، ويوفق للإصابة في قوله وفعله وحكمه ، ويزهده في الدنيا ، ويصرفه عن التعلق بها ، والركون إليها ، والاغترار بها ، ويذكره أنها فانية ، والآخرة آتية باقية ، والتأهب للباقي ، والإعراض عن الفاني . هو طريق الحازمين ، ودأب عباد الله الصالحين .

                                      وينبغي أن يرغبه في العلم ويذكره بفضائله وفضائل العلماء ، وأنهم ورثة الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا رتبة في الوجوه أعلى من هذه . وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ، ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه ، والاهتمام بمصالحه ، والصبر على جفائه وسوء أدبه ، ويعزره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان ، فإن الإنسان معرض للنقائص ، وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير ، ويكره له ما يكرهه لنفسه من الشر ، ففي الصحيحين : { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أكرم الناس علي ، جليسي الذي يتخطى الناس ، حتى يجلس إلي ، لو استطعت ألا يقع الذباب على وجهه لفعلت " وفي رواية : " إن الذباب يقع عليه فيؤذيني " وينبغي أن يكون سمحا يبذل ما حصله من العلم سهلا بإلقائه إلى مبتغيه ، متلطفا في إفادته طالبيه ، مع رفق ونصيحة وإرشاد إلى المهمات وتحريض على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النفيسات ، ولا يدخر عنهم من أنواع العلم شيئا يحتاجون إليه إذا كان الطالب أهلا لذلك ، ولا يلقي إليه شيئا لم يتأهل له . لئلا يفسد عليه ، فلو سأله المتعلم عن ذلك لم يجبه ، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه ، وأنه لم يمنعه ذلك شحا ، بل شفقة ولطفا .

                                      وينبغي أن لا يتعظم على المتعلمين ، بل يلين لهم ويتواضع ، فقد أمر بالتواضع لآحاد الناس ، قال الله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله أوحى إلي أن تواضعوا } رواه مسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله } رواه مسلم .

                                      [ ص: 59 ] فهذا في التواضع لمطلق الناس ، فكيف بهؤلاء الذين هم كأولاده مع ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم ، ومع ما لهم عليه من حق الصحبة ، وترددهم إليه واعتمادهم عليه ؟ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه } وعن الفضيل بن عياض - رحمه الله - : " إن الله - عز وجل - يحب العالم المتواضع ويبغض العالم الجبار ، ومن تواضع لله تعالى ورثه الحكمة " .

                                      وينبغي أن يكون حريصا على تعليمهم مهتما به مؤثرا له على حوائج نفسه ومصالحه ما لم تكن ضرورة ، ويرحب بهم عند إقبالهم إليه ، لحديث أبي سعيد السابق ، ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ، ويحسن إليهم بعلمه وماله وجاهه بحسب التيسير ، ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها ، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكني أصحابه إكراما لهم وتسنية لأمورهم } وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب منهم ، وينبغي أن يكون باذلا وسعه في تفهيمهم ، وتقريب الفائدة إلى أذهانهم ، حريصا على هدايتهم ، ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة ، ويخاطب كل واحد على قدر درجته ، وبحسب فهمه وهمته ، فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهما محققا ، ويوضح العبارة لغيره ، ويكررها لمن لا يحفظها إلا بتكرار ، ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل ، فإن جهل دليل بعضها ذكره له ، ويذكر الدلائل لمحتملها ، ويذكر : هذا ما بينا ، على هذه المسألة وما يشبهها ، وحكمه حكمها وما يقاربها ، وهو مخالف لها ، ويذكر الفرق بينهما ، ويذكر ما يرد عليها وجوابه إن أمكنه .

                                      ويبين الدليل الضعيف ، لئلا يغتر به فيقول : استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا ، ويبين الدليل المعتمد ليعتمد ، ويبين له ما يتعلق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللغات ، وينبههم على غلط من غلط فيها من المصنفين ، فيقول مثلا : هذا هو الصواب ، وأما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف ، قاصدا النصيحة ; لئلا يغتر به ، لا لتنقص للمصنف .

                                      ويبين له على التدريج قواعد المذهب التي لا تنخرم غالبا ، كقولنا : إذا اجتمع سبب [ ص: 60 ] ومباشرة قدمنا المباشرة ، وإذا اجتمع أصل وظاهر ففي المسألة غالبا قولان ، وإذا اجتمع قولان : قديم وجديد فالعمل غالبا بالجديد إلا في مسائل معدودة ، سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى .

                                      وأن من قبض شيئا لغرضه ، لا يقبل قوله في الرد إلى المالك ، ومن قبضه لغرض المالك قبل قوله في الرد إلى المالك لا إلى غيره ، وأن الحدود تسقط بالشبهة ، وأن الأمين إذا فرط ضمن ، وأن العدالة والكفاية شرط في الولايات ، وأن فرض الكفاية إذا فعله من يحصل به المطلوب سقط الحرج عن الباقين وإلا أثموا كلهم بالشرط الذي قدمناه ، وأن من ملك إنشاء عقد ملك الإقرار به ، وأن النكاح والنسب مبنيان على الاحتياط ، وأن الرخص لا تباح بالمعاصي ، وأن الاعتبار في الإيمان بالله أو العتاق أو الطلاق أو غيرها بنية الحالف إلا أن يكون المستحلف قاضيا فاستحلفها لله تعالى ، لدعوى اقتضته ، فإن الاعتبار بنية القاضي أو نائبه إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد ، فإن خالفه كحنفي استحلف شافعيا في شفعة الجوار ففيمن تعتبر نيته ؟ وجهان . وأن اليمين التي يستحلف بها القاضي لا تكون إلا بالله تعالى وصفاته ، وأن الضمان يجب في مال المتلف بغير حق ، سواء كان مكلفا أو غيره ، بشرط كونه من أهل الضمان في حق المتلف عليه . فقولنا : من أهل الضمان ، احتراز من إتلاف المسلم مال حربي ونفسه وعكسه . وقولنا : في حقه ، احتراز من إتلاف العبد مال سيده إلا أن يكون المتلف قاتلا خطأ أو شبه عمد ، فإن الدية على عاقلته ، وأن السيد لا يثبت له مال في ذمة عبده ابتداء وفي ثبوته دواما وجهان . وأن أصل الجمادات الطهارة إلا الخمر وكل نبيذ مسكر . وأن الحيوان على الطهارة إلا الكلب والخنزير وفرع أحدهما .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية