الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      باب صلاة الخوف قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( تجوز صلاة الخوف في قتال الكفار لقوله تعالى - : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } وكذلك يجوز في كل قتال مباح كقتال أهل البغي وقطاع الطريق ; لأنه قتال جائز فهو كقتال الكفار ، وأما القتال المحظور كقتال أهل العدل وقتال أهل الأموال لأخذ أموالهم ، فلا يجوز فيه صلاة الخوف ; لأن ذلك رخصة وتخفيف فلا يجوز أن يتعلق بالمعاصي ولأن فيه إعانة على المعصية وهذا لا يجوز ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : صلاة الخوف جائزة في كل قتال ليس بحرام ، سواء كان واجبا كقتال الكفار والبغاة وقطاع الطريق إذا قاتلهم الإمام ، وكذا الصائل على حريم الإنسان ، أو على نفسه ، إذا أوجبنا الدفع أو كان مباحا مستوي الطرفين كقتال من قصد مال الإنسان أو مال غيره وما أشبه ذلك ، ولا يجوز في القتال المحرم بالإجماع كقتال أهل العدل وقتال أهل الأموال لأخذ أموالهم ، وقتال القبائل ، عصبية ونحو ذلك ، ودليل الجميع في الكتاب ، وقطع أصحابنا العراقيون وجماعة من الخراسانيين بأنه يجوز لمن قصد ماله ودافع عنه أن يصلي صلاة الخوف كما ذكرنا [ ص: 288 ] أولا ، قال جمهور الخراسانيين : إذا كان المال حيوانا جازت صلاة الخوف قطعا ، وإلا فقولان : ( أصحهما ) الجواز والمذهب الجواز مطلقا ، وهو المشهور من نصوصه ، أما إذا انهزم المسلمون من الكفار فقال أصحابنا : إن كانت الهزيمة جائزة بأن يزيد الكفار على الضعف أو كان متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فلهم صلاة شدة الخوف وإلا فلا .

                                      وستأتي المسألة مع نظائرها وفروعها في أواخر هذا الباب في صلاة شدة الخوف إن شاء الله - تعالى .

                                      وحيث منعنا صلاة الخوف لكون القتال محرما فصلوها فهو كما لو صلوها في الأمن اتفق عليه أصحابنا ، وسنوضحه في آخر هذا الباب إن شاء الله - تعالى .

                                      وأما قول المصنف ( في كل قتال مباح ) فاستعمل المباح على اصطلاح الفقهاء ، وهو ما لا إثم فيه ، وإن كان واجبا فإن قتال البغاة واجب وحقيقة المباح عند الأصوليين ما استوى طرفاه بالشرع ، وإنما أطلقه المصنف وغيره ليدخل فيه الدفع عن المال وغيره ، مما هو مباح حقيقة وقوله : رخصة بضم الخاء وإسكانها



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : المراد بصلاة الخوف أن كيفية الفريضة فيها إذا صليت جماعة كما سنذكره إن شاء الله - تعالى ، وأما شروط الصلاة وأركانها وسننها وعدد ركعاتها فهي في الخوف كالأمن إلا أشياء استثنيت في صلاة شدة الخوف خاصة سنفصلها في موضعها إن شاء الله - تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من أن صلاة الخوف لا يتغير عدد ركعاتها هو مذهبنا ومذهب العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، إلا ابن العباس والحسن البصري والضحاك وإسحاق بن راهويه فإنهم قالوا : الواجب في الخوف ركعة ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن جابر بن عبد الله وطاوس ، لكن أبو حامد نقل عن هؤلاء أن الفرض في الخوف على الإمام ركعتان ، وعلى المأموم ركعة ، والذي نقله الجمهور عن هؤلاء أن الواجب ركعة فقط في حق كل أحد لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : { فرض الله - الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة } رواه مسلم .

                                      قالوا : ولأن المشقة في الخوف ظاهرة فخفف عنه بالقصر ، دليلنا الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما عن جماعات من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم { صلى هو وأصحابه في الخوف ركعتين } ( والجواب ) عن حديث ابن عباس أن معناه أن المأموم يصلي مع الإمام ركعة [ ص: 289 ] ويصلي الركعة الأخرى وحده وبهذا الجواب أجاب البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب ، وهو متعين للجمع بين الأحاديث الصحيحة ( والجواب ) عن قولهم في الخوف مشقة : أن ينتقض بالمرض فإن مشقته أشد ، ولا أثر له في قصر الصلاة بالإجماع مع أن الخوف يؤثر في تخفيف هيئات الصلاة وصفتها ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في أصل صلاة الخوف مذهبنا أنها مشروعة وكانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة لكل أهل عصره معه صلى الله عليه وسلم ومنفردين عنه ، واستمرت شريعتها إلى الآن وهي مستمرة إلى آخر الزمان .

                                      قال الشيخ أبو حامد وسائر أصحابنا : وبهذا قالت الأمة بأسرها إلا أبا يوسف والمزني فقال أبو يوسف : كانت مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه وذهبت بوفاته .

                                      وقال المزني : كانت ثم نسخت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم واحتج لأبي يوسف بقول الله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية قال : والتغيير الذي يدخلها كان ينجبر بفعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره واحتج المزني بأن النبي صلى الله عليه وسلم فاته صلوات يوم الخندق ، ولو كانت صلاة الخوف جائزة لفعلها ، ولم يفوت الصلاة .

                                      واحتج أصحابنا بالآية الكريمة ، والأصل هو التأسي به صلى الله عليه وسلم والخطاب معه خطاب لأمته .

                                      وبقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } رواه البخاري كما سبق ، وهو عام ، وبإجماع الصحابة فقد ثبتت الآثار الصحيحة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم صلوها في مواطن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجامع بحضرة كبار من الصحابة .

                                      ممن صلاها علي بن أبي طالب في حروبه بصفين وغيرها ، وحضرها من الصحابة خلائق لا ينحصرون ، ومنهم سعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وعبد الرحمن بن سمرة وحذيفة وسعيد بن العاص [ ص: 290 ] وغيرهم ، وقد روى أحاديثهم البيهقي وبعضها في سنن أبي داود وغيره قال البيهقي : والصحابة الذين رأوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الخوف لم يحملها أحد منهم على تخصيصها بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بزمنه ، بل رواها كل واحد ، وهو يعتقدها مشروعة على الصفة التي رآها .

                                      ( وأما الجواب ) عن احتجاجهم بالآية فقد سبق أنها حجة لنا [ لدلالة ] الخطاب والأصل التأسي .

                                      ( وأما الجواب ) عن انجبار الصلاة بفعلها خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال أصحابنا : الصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم فضيلة ، ولا يجوز ترك واجبات الصلاة لتحصيل فضيلة ، فإن لم تكن صلاة الخوف جائزة مطلقا لما فعلوها ( وأما دعوى ) المزني النسخ ( فجوابه ) : أن النسخ لا يثبت إلا إذا علمنا تقدم المنسوخ وتعذر الجمع بين النصين ، ولم يوجد هنا شيء من ذلك بل المنقول المشهور أن صلاة الخوف نزلت بعد الخندق فكيف ينسخ به ، ولأن صلاة الخوف على هذه الصفة جائزة ليست واجبة فلا يلزمه من تركها النسخ ، ولأن الصحابة أعلم بذلك فلو كانت منسوخة لما فعلوها ، ولأنكروا على فاعليها ، والله أعلم




                                      الخدمات العلمية