الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وإن عجل الزكاة ودفعها إلى فقير فمات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزئه المدفوع عن الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا . فإن لم يبين عند الدفع أنها زكاة معجلة لم يرجع . وإن بين رجع . واذا رجع فيما دفع نظرت ، فإن كان من الذهب أو الفضة واذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب - وجبت فيه الزكاة ; لأنه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على [ حكم ] ملكه . ولهذا لو عجله عن النصاب سقط به الفرض عند الحول . فلو لم يكن كالباقي على حكم ملكه لم يسقط به الفرض . وقد نقص المال عن النصاب ; ولأنه لما مات صار كالدين في ذمته . والذهب والفضة إذا صار دينا لم ينقطع الحول فيه . فيضم إلى ما عنده [ وزكاه ] وإن كان الذي عجل شاة ففيه وجهان : ( أحدهما ) يضم إلى ما عنده كما يضم الذهب والفضة .

                                      ( والثاني ) لا يضم ; لأنه لما مات صار كالدين . والحيوان إذا كان دينا لا تجب فيه الزكاة . وإن عجل الزكاة ودفعها إلى فقير فاستغنى قبل الحول نظرت ، فإن استغنى بما دفع إليه أجزاه ; لأنه دفع إليه ليستغني به . فلا يجوز أن يكون غناه به مانعا من الإجزاء ; ولأنه زال شرط الزكاة من جهة الزكاة فلا يمنع الإجزاء . كما لو كان عنده نصاب فعجل عنه شاة . فإن المال قد نقص عن النصاب . ولم يمنع الإجزاء عن الزكاة . وإن استغنى من غيره لم يجزه عن الزكاة . وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا . وهل يرجع ؟ على ما بيناه .

                                      وإن دفع إلى فقير ثم استغنى ثم افتقر قبل الحول وحال الحول وهو فقير ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا يجزئه . كما لو عجل زكاة ماله ثم تلف ماله . ثم استفاد غيره قبل الحول .

                                      ( والثاني ) أنه لا يجزئه ; لأنه دفع إليه وهو فقير . وحال الحول عليه وهو فقير ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : شرط كون المعجل زكاة مجزئا بقاء القابض بصفة الاستحقاق إلى آخر الحول ، فلو ارتد أو مات أو استغنى بغير [ ص: 125 ] المال المعجل قبل الحول لم يحسب عن الزكاة بلا خلاف ، وإن استغنى بالمدفوع من الزكوات أو به وبغيره لم يضر . ويجزئه المعجل بلا خلاف . قال القاضي أبو الطيب في المجرد : قال أبو إسحاق : وهكذا لو تصرف في المدفوع فاستغنى بربحه ونمائه أجزأ بلا خلاف ; لأنا دفعنا إليه ليفعل ذلك ويستغني به . قال أصحابنا : فإن عرض مانع في أثناء الحول ثم زال في أثنائه ، وصار عند تمام الحول بصفة الاستحقاق أجزأ المعجل على أصح الوجهين ; لأنه من أهل الزكاة في الطرفين ، وممن صححه القاضي أبو الطيب والرافعي . ويشترط في الدافع بقاؤه إلى آخر الحول بصفة من تلزمه الزكاة ، فلو ارتد وقلنا : الردة تمنع وجوب الزكاة أو مات أو تلف كل ماله أو نقص هو والمعجل عن النصاب أو باعه ، لم يكن المعجل زكاة ، وإن أبقينا ملك المرتد وجوزنا إخراج الزكاة في حال الردة أجزأه المعجل ، وقد سبق في إجزائها في حال الردة خلاف في أول كتاب الزكاة ، وهل يحسب في صورة الموت عن زكاة الوارث ؟ قال الأصحاب : إن قلنا الوارث يبني على حول الموروث أجزأه وإلا فلا ، على أصح الوجهين ، وبه قطع السرخسي وآخرون ; لأنه تعجيل قبل ملك النصاب .

                                      ( والثاني ) يجزئه ; لأنه قائم مقامه ، وذكر البندنيجي وصاحب البيان أن هذا هو المنصوص قالا : ومن قال بالأول حمل النص على أنه تفريع على القديم .

                                      ( فإن قلنا ) : يحسب فتعددت الورثة حكم بالخلطة إن كان المال ماشية أو غير ماشية ، وقلنا بثبوت الخلطة في غيرها ، فأما إن قلنا : لا تثبت ونقص نصيب كل واحد عن النصاب ، أو اقتسموا ونقص نصيب كل واحد عن النصاب فينقطع الحول ولا تجب الزكاة على الصحيح ، وفيه وجه ضعيف أنهم يصيرون كشخص واحد . قال أصحابنا : والمعجل مضموم إلى ما عند الدافع ، نازل منزلة ما لو كان في يده فلو عجل شاة من أربعين ثم حال الحول ولم يطرأ مانع أجزأه ما عجل ، وكانت تلك الشاة بمنزلة الباقيات عنده ، في شيئين : في إتمام النصاب بها وفي إجزائها ، [ ص: 126 ] وسواء كانت باقية في يد الفقير أو تالفة ، ثم إن تم الحول بعد التعجيل والمال على حاله أجزأه كما ذكرناه ، وفي تقديره إذا كان الباقي دون النصاب بأن أخرج شاة من أربعين وجهان ( الصحيح ) الذي قطع به الأصحاب أن المعجل كالباقي على ملكه حتى يكمل به النصاب ويجزئ . وليس بباق في ملكه حقيقة ، وقال صاحب التقريب : يقدر كأن الملك لم يزل لينقضي الحول وفي ملكه نصاب ، واستبعد إمام الحرمين هذا ، وقال : تصرف القابض نافذ بالبيع والهبة وغيرهما ، فكيف يقال ببقاء ملك الدافع ؟ ، قال الرافعي : وهذا الاستبعاد صحيح إن أراد صاحب التقريب بقاء ملكه حقيقة ، وإن أراد ما قاله فقوله صواب .

                                      ( وأما ) إذا طرأ مانع من كون المعجل زكاة فينظر ، إن كان الدافع أهلا للوجوب وبقي في يده نصاب - لزمه الإخراج ثانيا ، وإن كان دون نصاب فحيث لا يثبت الاسترداد أو يثبت ولا يبلغ الباقي مع المسترد نصابا لا زكاة بلا خلاف وكأنه تطوع بشاة قبل الحول . وحيث ثبت الاسترداد فاسترد وتم بالمسترد النصاب ، فيه ثلاثة أوجه مشهورة في كتب العراقيين والسرخسي وغيرهم .

                                      ( أحدها ) يستأنف الحول ولا زكاة للماضي ، لنقص ملكه عن النصاب ، ( والثاني ) إن كان ماله نقدا زكاه ; لما مضى . وإن كان ماشية فلا ; لأن السوم شرط في زكاة الماشية ، وذلك لا يتصور في حيوان في الذمة ، ( وأصحها ) عندهم تجب الزكاة لما مضى مطلقا ; لأن المدفوع كالباقي على ملكه ، وبهذا قطع البغوي بل لفظه يقتضي وجوب الإخراج ثانيا قبل الاسترداد - إذا كان المخرج بعينه باقيا في يد القابض . وقال صاحب التقريب : إذا استرد وقلنا : كأن ملكه زال ، لم يلزمه زكاة الماضي .

                                      ( وإن قلنا ) : يتبين أن ملكه لم يزل ، لزمه زكاة الماضي ، قال إمام الحرمين : وعلى هذا التقدير الثاني الشاة المقبوضة حصلت الحيلولة بين المالك وبينهما ، فيجيء فيها الخلاف في المغصوب والمجحود . قال الرافعي : وكلام العراقيين يشعر بجريان الأوجه الثلاثة مع تسليم زوال الملك عن المعجل ، قال : وكيف كان ، فالأصح عند الجمهور وجوب الزكاة للماضي قال البغوي : فلو عجل من ألف شاة عشرا فتلف ماله قبل الحول إلا ثلاثمائة وتسعين ، وكانت العشرة باقية [ ص: 127 ] في يد القابض ، ضمت إلى ما عنده حيث ثبت الاسترداد . فيصير المال أربعمائة . وواجبه أربعة شياه فيحسب أربعا عن الزكاة . ويسترد ستا إن كان القابض بصفة الاستحقاق ، وإلا فيسترد العشر ويخرج أربعا هذا كله إذا كان المدفوع باقيا في يد القابض ، أما إذا كان المدفوع تالفا في يد القابض .

                                      فإن كان الباقي في يد المالك نصابا لزمته الزكاة لحوله بلا خلاف . وإلا فقد صار الضمان دينا في ذمته ، فإن أوجبنا تجديد الزكاة إذا كان باقيا جاء هنا قولا وجوب الزكاة في الدين ( الأصح ) الوجوب ، هذا إن كان المزكى نقدا ، فإن كان ماشية لم تجب الزكاة بحال ; لأن الواجب على القابض القيمة ، فلا يكمل بها نصاب الماشية ، وقال أبو إسحاق المروزي : تقام القيمة مقام العين هنا ، نظرا للمساكين ، والصحيح الأول ، وبه قطع الأكثرون . والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو كان المدفوع إليه الزكاة المعجلة يوم الدفع غنيا ، ويوم الوجوب فقيرا ، لم تقع عن الزكاة بلا خلاف ، نقل الاتفاق عليه البندنيجي وغيره .



                                      ( فرع ) : لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين بعيرا فبلغت بالتوالد ستا وثلاثين قبل الحول لم يجزئه بنت المخاض المعجلة ، وإن كانت قد صارت بنت لبون في يد القابض بل يستردها ويخرجها ثانيا أو بنت لبون أخرى وهكذا ذكروه ، وذكره البغوي ثم قال لنفسه : فإن كان المخرج تالفا والنتاج لم يزد على أحد عشر ، لم تكن إبله ستا وثلاثين إلا بالمخرج ، ينبغي ألا تجب بنت لبون ; لأنا إنما نجعل المخرج كالباقي في يد الدافع إذا حسبناه ، أما إذا لم يقع محسوبا عنها فلا ، بل هو كهلاك بعض المال قبل الحول ، قال الرافعي : الوجه الثالث السابق عن العراقيين وصححوه ينازع في هذا .



                                      ( فرع ) : لو عجل الزكاة فمات المدفوع إليه قبل الحول قفد سبق أنه لا يقع المدفوع زكاة ، ويسترد من تركة الميت ، وتجب الزكاة ثانيا على المالك إن بقي معه نصاب ، وكذا إن تم نصابا بالمرجوع به على الخلاف السابق ، هذا إذا كان الميت موسرا فلو مات معسرا لا شيء له ، ففيه ثلاثة أوجه حكاها السرخسي : ( أحدها ) وهو القياس [ ص: 128 ] الذي يقتضيه كلام الجمهور أنه يلزم المالك دفع الزكاة ثانيا إلى المستحقين ; لأن القابض ليس من أهل الزكاة وقت الوجوب .

                                      ( والثاني ) يجزئه هذا المعجل هنا للمصلحة مراعاة لمصلحة التعجيل والرفق بالمساكين ، فلو لم نقل بالإجزاء نفر الناس عن التعجيل خوفا من هذا .

                                      ( والثالث ) أن الإمام يغرم للمالك من بيت المال قدر المدفوع ، ويلزم المالك إخراج الزكاة جمعا بين المصلحتين والدليلين .




                                      الخدمات العلمية