الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وسهم في سبيل الله ، وهم الغزاة [ الذين ] إذا نشطوا غزوا ، فأما من كان مرتبا في ديوان السلطان من جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة ; لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من الفيء ، ويعطى الغازي مع الفقر والغنى ، للخبر الذي ذكرناه في الغارم ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس إن كان فارسا ، وما يعطى السائس وحمولة تحمله إن كان راجلا والمسافة مما تقصر فيها الصلاة ، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله ( نشطوا ) بفتح النون وكسر الشين ( والديوان ) بكسر الدال على الفصيح المشهور . وحكي فتحها وأنكره الأصمعي والأكثرون ، وهو فارسي معرب . وقيل : عربي وهو غريب .

                                      ( والحمولة ) بفتح الحاء ، وهي الدابة التي يحمل عليها من بعير أو بغل أو حمار . ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين ، وبه قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه : يجوز صرفه إلى مريد الحج ، وروى مثله عن ابن عمر رضي الله عنه . واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت : { لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض فهلك أبو معقل ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته فقال : يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا ؟ قالت : فقلت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل [ ص: 199 ] وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه ، فأوصى به أبو معقل في سبيل الله ، قال : فهلا خرجت عليه ؟ فإن الحج في سبيل الله } . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " { أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي ما أحجك عليه ، فقالت أحجني على جملك فلان ، قال ذلك حبيسي في سبيل الله عز وجل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك ، قالت : أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ما عندي ما أحجك عليه ، فقالت : أحجني على جملك فلان ، فقلت : ذلك حبيسي في سبيل الله ، فقال : أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله قال وإنها أمرتني أن أسألك ما يعدل حجة معك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقرئها السلام ورحمة الله وبركاته وأخبرها أنها تعدل حجة معي يعني عمرة في رمضان } رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب العمرة والثاني إسناده صحيح وأما الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه ( عن ) وهو مدلس والمدلس إذا قال : ( عن ) لا يحتج به بالاتفاق .

                                      [ ص: 200 ] واحتج أصحابنا بأن المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو ، وأكثر ما جاء في القرآن العزيز كذلك . واحتج الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين { لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة } فذكر منهم الغازي ، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى .

                                      وأما الحديثان اللذان احتجوا بهما ( فالأول ) ضعيف كما سبق ( والجواب ) عن الثاني أن الحج يسمى سبيل الله ، ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه . قال المصنف والأصحاب رحمهم الله تعالى : وأما الغزاة المرتبون في ديوان السلطان ولهم فيه حق فلا يعطون من الزكاة بسبب الغزو بلا خلاف ، وإن كان فيهم وصف آخر يستحقون به أعطوا به ، بأن يكون غارما أو ابن سبيل ، قال أصحابنا : فإن أراد رجل من المرتزقة المرتبين في الديوان أن يصير من أهل الزكوات المتطوعين بالغزو ويترك سهمه من الديوان جعل من أهل الصدقات ، وكذا لو أراد واحد من أهل الصدقات أن يصير من المرتزقة جعل منهم ، فيعطى من الفيء ولا يعطى من الصدقات ، قال أصحابنا : ولا حق لأهل الصدقات في الفيء ، ولا للأهل الفيء في الصدقات . [ ص: 201 ] فإن احتاج المسلمون إلى من يكفيهم شر الكفار ولا مال في بيت المال ، فهل يجوز إعطاء المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل الله تعالى ؟ فيه قولان مشهوران في طريقة خراسان ( أصحهما ) لا يعطون كما لا يصرف الفيء إلى أهل الصدقات ( والثاني ) يعطون ; لأنهم غزاة ، قال أصحابنا : فعلى الأول يجب على أغنياء المسلمين إعانتهم . قال المصنف والأصحاب : ويعطى الغازي مع الفقر والغنى ; للحديث السابق ولأن فيه مصلحة للمسلمين .

                                      قال أصحابنا : ويعطى ما يستعين به على الغزو فيعطى نفقته وكسوته مدة الذهاب والرجوع والمقام في الثغر ، وإن طال ، وهل يعطى جميع المؤنة أم ما زاد بسبب السفر ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) الجميع ، وهو مقتضى كلام الجمهور ، ويجريان في ابن السبيل ، ويعطى ما يشتري به الفرس إن كان يقاتل فارسا ، وما يشتري به السلاح وآلات القتال ، ويصير ذلك ملكا للغازي ، ويجوز أن يستأجر له الفرس والسلاح من مال الزكاة ، ويختلف الحال بكثرة المال وقلته ، فإن كان يقاتل راجلا لم يعط للفرس شيئا ، ويعطى ما يحمل عليه الزاد ويركبه في الطريق إن كان ضعيفا أو كان السفر مسافة القصر . قال أصحابنا : ويسلم الإمام إلى الغازي ثمن الفرس والسلاح والآلات : ثم الغازي يشتريها . قال القاضي أبو الطيب والأصحاب : فلو استأذنه الإمام في شراها له بمال الزكاة فأذن جاز ، فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه هل يجوز ؟ فيه وجهان .

                                      ( أحدهما ) لا يجوز ، بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه وبه قطع جماعة من العراقيين ، وهو ظاهر عبارة آخرين منهم ( وأصحهما ) يجوز ، وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه ، وقطع به جماعة منهم ، قال الخراسانيون : الإمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه ، وإن شاء استأجر ذلك له ، وإن شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ، ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته .

                                      ( وأما ) نفقة عيال الغازي فقال الرافعي في بعض شروح المفتاح : [ ص: 202 ] أنه يعطى نفقته ونفقة عياله ذهابا ومقاما ورجوعا ، قال : وسكت المعظم عن نفقة العيال ، ولكن إعطاؤه إياها ليس بعيدا كما ينظر في استطاعة الحج إلى نفقة العيال ، فيعتبر غناه لعياله كنفسه ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : إنما يعطى الغازي من الزكاة إذا حضر وقت الخروج ليهيئ به أسباب سفره ، فإن أخذ ولم يخرج إلى الغزو استرجع منه ، كذا قاله المصنف والأصحاب ، واتفقوا عليه ، وقد سبق في فصل المكاتب بيان كم يمهل في الخروج . قال أصحابنا : وكذا لو مات في الطريق أو امتنع الغزو بسبب آخر استرد ما بقي معه ، ذكره البغوي وآخرون ولو غزا ورجع وبقي معه شيء من النفقة فإن لم يقتر على نفسه . وكان الباقي قدرا صالحا استرد منه . لأنا تبينا أن المدفوع إليه كان زائدا . وإن لم يقتر على نفسه وكان الفاضل يسيرا لم يسترجع منه ، كذا نقله الرافعي قال : وهذا لا خلاف فيه . قال : وفي مثله في ابن السبيل يسترد على الصحيح المشهور . وفيه وجه ضعيف أنه لا يسترد أيضا ونسبه بعضهم إلى النص والفرق على الصحيح أنا دفعنها إلى الغازي لحاجتنا وقد فعل . ودفعنا إلى ابن السبيل لحاجته وقد زالت .

                                      ( أما ) إذا قتر الغازي على نفسه وفضل شيء بحيث لو لم يقتر لم يفضل لم يسترد بلا خلاف . لأنا دفعنا إليه كفايته فلم نرجع عليه بما قتر كالفقير إذا أعطيناه كفايته فقتر وفضل فضل عنده لا يسترجع منه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية