الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى - - ( ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم ، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله - تعالى - حرم مكة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، فقال العباس : إلا الإذخر لصاغتنا ؟ فقال إلا الإذخر } وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء ، فإن قتل محرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد ; لأن المقتول واحد ، فكان الجزاء واحدا كما لو قتله في الحل .

                                      وإن اصطاد الحلال صيدا من الحل وأدخله إلى الحرم جاز له التصرف فيه بالإمساك والذبح [ ص: 444 ] وغير ذلك مما كان يملكه به قبل أن يدخل إلى الحرم ، لأنه من صيد الحل ، فلم يمنع من التصرف فيه . وإن ذبح الحلال صيدا من صيود الحرم لم يحل له أكله ، وهل يحرم على غيره ؟ فيه طريقان ( من ) أصحابنا من قال : هو على قولين ، كالمحرم إذا ذبح صيدا ( ومنهم ) من قال : يحرم هاهنا قولا واحدا ، لأن الصيد في الحرم محرم على كل واحد فهو كالحيوان الذي لا يؤكل . وإن رمى من الحل إلى صيد في الحرم فأصابه لزمه الضمان ; لأن الصيد في موضع أمنه ، وإن رمى من الحرم إلى صيد في الحل فأصابه ضمنه ، لأنه كونه في الحرم يوجب تحريم الصيد عليه . وإن رمى من الحل إلى صيد في الحل ومر السهم في موضع من الحرم فأصابه ففيه وجهان ( أحدهما ) يضمنه ; لأن السهم مر من الحرم إلى الصيد ( والثاني ) لا يضمنه ; لأن الصيد في الحل والرامي في الحل ، وإن كان في الحرم شجرة وأغصانها في الحل فوقعت حمامة على غصن في الحل فرماه من الحل فأصابه لم يضمنه ; لأن الحمام غير تابع للشجرة فهو كطير في هواء الحل ، وإن رمى إلى صيد في الحل فعدل السهم وأصاب صيدا في الحرم فقتله لزمه الجزاء ; لأن العمد والخطأ في ضمان الصيد سواء ، وإن أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فدخل الصيد الحرم فتبعه الكلب فقتله لم يلزمه الجزاء ، لأن للكلب اختيارا ودخل الحرم باختياره ، بخلاف السهم .

                                      قال في الإملاء : إذا أمسك الحلال صيدا في الحل ، وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ ، ضمن الفرخ لأنه مات في الحرم بسبب من جهته ، ولا يضمن الأم لأنه صيد في الحل مات في يد الحلال ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم من طرق ، والخلى بفتح الخاء المعجمة مقصور ، هو رطب الكلأ قال أهل اللغة : الحشيش هو اليابس من الكلأ ، والخلى هو الرطب منه ، ومعنى يعضد يقطع ، والإذخر - بكسر الهمزة والخاء المعجمة - نبت طيب الرائحة معروف . أما الأحكام : فصيد حرم مكة حرام على الحلال والحرام بالإجماع ، ودليله الحديث المذكور ونبه صلى الله عليه وسلم بالتنفير على الإتلاف وغيره ، قال أصحابنا : فيحرم في صيد الحرم كل ما يحرم في صيد الإحرام [ ص: 445 ] من اصطياده وتملكه وإتلافه ، وإتلاف أجزائه وجرحه وتنفيره والتسبب إلى ذلك ويحرم بيضه ، وإتلاف ريشه وغير ذلك مما سبق ، ولا يختلفان في شيء من ذلك . وحكم لبنه حكم لبن صيد الإحرام كما سبق ، فإن قتل حلال أو محرم صيدا في الحرم أو أتلف جزءا منه أو تلف بسبب منه ضمنه ، وضابطه ما ذكره المصنف والأصحاب أنه كصيد الإحرام في التحريم والجزاء ، وقدر الجزاء وصفته .

                                      ولو قتل محرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد بلا خلاف عندنا لما ذكره المصنف . ولو أدخل حلال إلى الحرم صيدا مملوكا له كان له إمساكه وذبحه والتصرف فيه ، كيف شاء كالنعم وغيرها لما ذكره المصنف . وإن ذبح حلال صيدا حرميا حرم عليه أكله بلا خلاف ، وفي تحريمه على غيره طريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ، وقد سبق بيانهما بفروعهما في الباب السابق والمذهب تحريمه ، فيكون ميته نجسا كذبيحة المجوسي ، وكالحيوان الذي لا يؤكل . ولو رمي من الحرم صيدا في الحرم أو من الحرم صيدا في الحل ، وأرسل كلبا في الصورتين على الصيد فقتله لزمه الجزاء لما ذكره المصنف . ولو رمى حلال في الحرم صيدا فأحرم قبل أن يصيبه ثم أصابه ، أو رمى محرم إليه فتحلل قبل أن يصيبه ثم أصابه ، لزمه الضمان على الأصح ، وسبق مثله في صيد الحرم في الباب السابق . ولو رمى من الحل إلى صيد ، بعضه في الحل وبعضه في الحرم ففيه خمسة أوجه الثلاثة الأولى منها حكاها صاحب الحاوي والجرجاني في المعاياة وغيرهما ( أحدها ) لا جزاء فيه ، لأنه لم يتمحض حرميا ( والثاني ) إن كان أكثره في الحرم وجب الجزاء ، وإن كان أكثره في الحل فلا ، اعتبار بالغالب ( والثالث ) إن كان خارجا من الحرم إلى الحل ضمنه ، وإن كان عكسه فلا ، اعتبارا بما كان عليه ( والرابع ) وبه قطع القاضي حسين والبغوي والرافعي إن كان رأسه في الحرم وقوائمه كلها في الحل فلا جزاء [ ص: 446 ] عليه وإن كان بعض قوائمه في الحرم وجب الجزاء وإن كانت قائمة واحدة تغليبا للحرمة ( والخامس ) يجب فيه الجزاء بكل حال ، حتى لو كان رأسه في الحرم وقوائمه كلها في الحل ، وهو نائم أو مستيقظ وجب الجزاء ، وبهذا قطع أبو علي البندنيجي وصاحب البيان تغليبا لحرمة الحرم ، والله أعلم .



                                      ( أما ) إذا رمى من الحل صيدا في الحل فمر السهم في ذهابه في طرف من الحرم ، ثم أصاب الصيد في الحل ففي وجوب ضمانه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) لا يضمن كما لو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فتخير في مروره في طرف الحرم فإنه لا يضمن على المذهب ، وبه قطع الجمهور وفيه وجه أو قول حكاه صاحب الحاوي أنه يضمن وهو شاذ ضعيف ( وأصحهما ) يضمن ; لأنه تلف بفعل الكلب ، فإن للكلب اختيارا بخلاف السهم ، ولهذا قال المصنف والأصحاب كلهم : لو رمى صيدا في الحل فعدل الصيد فدخل الحرم فأصابه السهم وجب الضمان ، وبمثله لو أرسل كلبا فأصابه لم يجب ، ثم في مسألة إرسال الكلب وتخطيه طرف الحرم إنما لا يجب الضمان إذا كان للصيد مقر آخر فأما إذا تعين دخوله الحرم عند الهرب فيجب الضمان قطعا ، سواء كان المرسل عالما بالحال أو جاهلا ، ولكن يأثم العالم دون الجاهل ، قال صاحب الحاوي فيما إذا أرسل الكلب من الحل على صيد في الحل فعدل الصيد إلى الحرم فتبعه الكلب فقتله ، قال الشافعي : لا جزاء عليه ; لأنه إنما أرسله على صيد في الحل ، قال صاحب الحاوي : قال أصحابنا : أراد الشافعي إذا كان مرسله قد زجره عن اتباع الصيد في الحرم ، فلم ينزجر ، فإن لم ينزجر فعليه الجزاء ; لأن الكلب المعلم إذا أرسل إلى صيد تبعه أين توجه هذا كلامه ، وهذا الذي شرطه من الزجر غريب لم يذكره الأصحاب .



                                      ( فرع ) لو كانت شجرة ثابتة في الحرم ، وأغصانها في الحل ، فوقع [ ص: 447 ] على الغصن طائر فقتله إنسان في الحل ، فلا ضمان ولو قطع الغصن ضمن الغصن لأن الغصن جزء من الشجرة تابع لها والشجرة مضمونة فكذا غصنها وأما الطائر فليس جزءا من الشجرة ولا هو في الحرم ، وإنما هو في الحل فلا يجب ضمانه وعكسه لو كانت الشجرة نابتة في الحل ، وغصنها في الحرم ، فوقع عليه طائر فقتله ، لزمه ضمانه لأنه في هواء الحرم ، ولو قطع الغصن لم يضمنه لأنه تابع لشجرة في الحل ، وهذا الفرع لا خلاف فيه ، وعبارة المصنف تشير إلى التنبيه على الصورتين . قال الدارمي : ولو وقف الحلال على الغصن ورمى إلى صيد في الحل فقتله فهو كما لو قتل الصيد الذي على الغصن ، فإن كان الغصن في هواء الحرم ضمن ، وإلا فلا والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية