الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لما روى المقدام بن معديكرب { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في جحري أذنيه } ويكون ذلك بماء جديد غير الذي مسح به الرأس لما روي : { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه بأذنيه } ولأنه عضو يتميز عن الرأس في الاسم والخلقة فلا يتبعه في الطهارة كسائر الأعضاء . وقال في الأم والبويطي : ويأخذ لصماخيه ماء جديدا غير الماء الذي مسح به ظاهر الأذن وباطنه ; لأن الصماخ في الأذن كالفم والأنف في الوجه ، فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء فكذلك الصماخ في الأذن فإن ترك مسح الأذن جاز ، لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي : توضأ كما أمرك الله } وليس فيما أمر الله تعالى - : مسح الأذنين )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث المقدام فحسن رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم بمعناه بأسانيد حسنة وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم : { مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما } قال الترمذي : حديث حسن صحيح وروى أبو داود وغيره مثله من رواية عثمان ، وفيه أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة . وأما راوي الحديث فهو المقدام بكسر الميم وآخره ميم أخرى وكرب بفتح الكاف ، وكسر الراء ويجوز صرفه وترك صرفه وجهان مشهوران لأهل العربية [ ص: 442 ] وفيه وجه ثالث أن الباء مضمومة بكل حال ، وأما ياء معدي فساكنة بكل حال ، والمقدام من مشهوري الصحابة رضي الله عنهم وهو كندي شامي حمصي يكنى أبا كريمة وقيل : أبا صالح ، وقيل : أبا يحيى ، وقيل أبا بشر ، والأول أشهر ، توفي سنة سبع وثمانين ، ابن إحدى وتسعين سنة .

                                      وأما الحديث الثاني وهو قوله : " روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه بأذنيه } فهو موجود في نسخ المهذب المشهورة وليس موجودا في بعض النسخ المعتمدة وهو حديث ضعيف أو باطل لا يعرف ، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : وهنا نكتة خفيت على أهل العناية بالمهذب وهي أن مصنفه رجع عن الاستدلال بهذا الحديث وأسقطه عن المهذب فلم يفد ذلك بعد انتشار الكتاب ، قال : وجدت بخط بعض تلامذته في هذه المسألة من تعليقه في الخلاف في الحاشية عند استدلاله بهذا الحديث قال الشيخ : ليس له أصل في السنن فيجب أن تضربوا عليه ، وفي المهذب فإني صنفته من عشر سنين وما عرفته . قال أبو عمرو بن الصلاح : وبلغني أن هذا الحديث مضروب عليه في أصل المصنف الذي هو بخطه . ويغني عن هذا حديث عبد الله بن زيد أنه { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فأخذ لأذنيه ماء خلاف الماء الذي أخذ لرأسه } حديث حسن رواه البيهقي وقال : إسناده صحيح . وأما حديث الأعرابي فصحيح تقدم بيانه في فصل المضمضة والله أعلم .

                                      وقوله : ( جحري أذنيه ) هو بضم الجيم وإسكان الحاء وهو الثقب المعروف ، وفي رواية أبي داود وغيره { صماخي أذنيه } بدل جحري وهو تفسير له ، والأذن بضم الذال ويجوز إسكانها كما سبق في غسل الوجه مشتقة من الأذن بفتح الهمزة والذال وهو الاستماع ، والصماخ بكسر الصاد ويقال السماخ بالسين لغتان الصاد أفصح وأشهر ، وادعى ابن السكيت وابن قتيبة أنه لا يجوز بالسين . وقول المصنف : وقال في الأم ، كذا وقع في المهذب وقال بواو العطف وهو صحيح ، وقوله : ولأنه عضو تميز عن الرأس في الاسم والخلقة ، احترز بالاسم عن الناصية وبالخلقة عن النزعتين والله أعلم .

                                      ( أما أحكام المسألة ) فمسح الأذنين سنة للأحاديث السابقة ، والسنة أن [ ص: 443 ] يمسح ظاهرهما وباطنهما ، فظاهرهما ما يلي الرأس وباطنهما ما يلي الوجه . كذا قاله الصيمري وآخرون وهو واضح . وأما كيفية المسح فقال إمام الحرمين والغزالي وجماعات : يأخذ الماء بيديه ويدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه ويديرهما على المعاطف ويمر الإبهامين على ظهور الأذنين ، قال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره : ويلصق بعد ذلك كفيه المبلولتين بأذنيه طلبا للاستيعاب ، وقال الفوراني والمتولي وغيرهما : يمسح بالإبهام ظاهر الأذن وبالمسبحة باطنها ويمر رأس الأصبع في معاطف الأذن ويدخل الخنصر في صماخيه ، قال الفوراني : ويضع الإبهام على ظاهر الأذن ويمرها إلى جهة العلو . قال أصحابنا : ويمسح الأذنين معا ولا يقدم اليمنى فإن كان أقطع اليد قدمها ، حكى الروياني وجها أنه يستحب تقديم اليمنى وهو شاذ وغلط . واعلم أن مسح الأذنين بعد مسح الرأس فلو قدمه عليه فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يحصل له مسح الأذنين لأنه فعله قبل وقته . وذكر الروياني في حصوله وجهين والصحيح المنع . ويشترط لمسح الأذنين ماء غير الماء الذي مسح به الرأس بلا خلاف بين أصحابنا وبه قال جمهور العلماء ، قال أصحابنا : ولا بشرط أن يكون أخذه للماء لهما أخذا جديدا ، بل لو أخذ الماء للرأس بأصابعه فمسح ببعضها وأمسك بعضها ثم مسح الأذنين بما أمسكه صح لأنه مسحهما بغير ماء الرأس ، قال الشافعي في الأم والبويطي والأصحاب : ويأخذ للصماخين ماء غير ماء ظاهر الأذن وباطنه ، وقد ذكر المصنف دليله ، ويكون المأخوذ للصماخ ثلاثا كسائر الأعضاء ، صرح به الماوردي في كتابه الإقناع وهو واضح ، وحكى الماوردي في الحاوي وجها أنه يكفي مسح الصماخ ببقية ماء الأذن لكونه منها وحكاه الرافعي قولا والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الأذنين . مذهبنا أنهما ليستا من الوجه ولا من الرأس بل عضوان مستقلان يسن مسحهما على الانفراد ولا يجب ، وبه قال جماعة من السلف حكوه عن ابن عمر والحسن وعطاء وأبي ثور . وقال الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه وقال الأكثرون : هما من الرأس . وقال ابن المنذر : رويناه عن ابن عباس [ ص: 444 ] وابن عمر وأبي موسى وبه قال عطاء وابن المسيب والحسن وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد . قال الترمذي : هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، وبه قال الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق . واختلف هؤلاء هل يأخذ لهما ماء جديدا أم يمسحهما بماء الرأس ؟ .

                                      وقال الشعبي والحسن بن صالح : ما أقبل منهما فهو من الوجه يغسل معه ، وما أدبر فمن الرأس يمسح معه ، قال ابن المنذر : واختاره إسحاق . واحتج لمن قال : هما من الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يقول في سجوده : سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره } فأضاف السمع إلى الوجه كما أضاف إليه البصر . واحتج من قال : هما من الرأس بقول الله تعالى - : { وأخذ برأس أخيه يجره إليه } وقيل : المراد به الأذن ، واحتجوا بحديث شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الأذنان من الرأس } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ، وروي من رواية ابن عباس وابن عمر وأنس وعبد الله بن زيد وأبي هريرة وعائشة ، وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وقال بالوسطيين من أصابعه في باطن أذنيه والإبهامين من وراء أذنيه } . واحتج للشعبي ومن وافقه بما روي عن علي رضي الله عنه : " أنه مسح رأسه ومؤخر أذنيه " ولأن الوجه ما حصلت به المواجهة وهي حاصلة بما أقبل . واحتج أصحابنا بأشياء : أحسنها حديث عبد الله بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه } وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا ، فهذا صريح في أنهما ليستا من الرأس إذ لو كانتا منه لما أخذ لهما ماء جديدا كسائر أجزاء الرأس ، وهو صريح في أخذ ماء جديد فيحتج به أيضا على من قال : يمسحهما بماء الرأس ، وفيه رد على من قال : هما من الوجه ، فقد جمع هذا الحديث الصحيح [ ص: 445 ] الدلالة للمذهب والرد على جميع المخالفين .

                                      واحتجوا على من قال هما من الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسحهما ولم ينقل غسلهما مع كثرة رواة صفة الوضوء واختلاف صفاته ، ولأن الإجماع منعقد على أن المتيمم لا يلزمه مسحهما ، قال القاضي أبو الطيب : ولأن الأصمعي والمفضل بن سلمة قالا : الأذنان ليستا من الرأس وهما إمامان من أجل أئمة اللغة ، والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها . واحتجوا على من قال : هما من الرأس بأن الإجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن مسح الرأس بخلاف أجزائه ، وبأنه لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالإجماع ، ولأنه عضو يخالف الرأس خلقة وسمتا فلم يكن منه كالخد ، وقولنا : " وسمتا " احتراز من النزعة ، قال القاضي أبو الطيب والماوردي : ولأن الإجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الأذن ليس من الرأس مع قربه فالأذن أولى ، ولأنه لا يتعلق بالأذن شيء من أحكام الرأس سوى المسح ، فمن ادعى أن حكمها في المسح حكم الرأس فعليه البيان .

                                      وأما الجواب عن احتجاج الزهري فمن وجهين : ( أحدهما ) المراد بالوجه الجملة والذات كقوله تعالى - : { كل شيء هالك إلا وجهه } ، الدليل على هذا أن السجود حاصل بأعضاء أخر .

                                      ( الثاني ) أن الشيء يضاف إلى ما يقاربه وإن لم يكن منه . والجواب عما احتج به القائلون بأنهما من الرأس من الآية أنه تأويل للآية على خلاف ظاهرها فلا يقبل ، والمفسرون مختلفون في ذلك فقيل : المراد الرأس ، وقيل : الأذن ، وقيل : الذؤابة ، فكيف يحتج بها والحالة هذه ؟ والجواب عن الأحاديث أنها كلها ضعيفة متفق على ضعفها ، مشهور في كتب الحديث تضعيفها إلا حديث ابن عباس فإسناده جيد ، ولكن ليس فيه دليل لما ادعوه ; لأنه ليس فيه أنه مسحهما بماء الرأس المستعمل في الرأس ، قال البيهقي قال أصحابنا : كأنه كان يعزل من كل يد أصبعين فإذا فرغ من مسح الرأس مسح بهما أذنيه . [ ص: 446 ] وأما الجواب عن احتجاج الشعبي بفعل علي فمن أوجه : ( أحدها ) أنها رواية ضعيفة لا تعرف .

                                      ( والثاني ) ليس فيها دليل على الفرق بين مقدم الأذن ومؤخرها .

                                      ( والثالث ) أن ذلك محمول على أنه استوعب الرأس فانمسح مؤخر الأذن معه ضمنا لا مقصودا ; لأن الاستيعاب لا يتأتى غالبا إلا بذلك .

                                      ( الرابع ) لو صح ذلك عن علي وتعذر تأويله كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما هو المشهور عن علي أولى والله أعلم .

                                      ( فرع ) أجمعت الأمة على أن الأذنين تطهران ، واختلفوا في كيفية تطهيرهما على المذاهب السابقة : قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه اختلاف الفقهاء : أجمعوا أن من ترك مسحهما فطهارته صحيحة ، وكذا نقل الإجماع غيره ، وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن إسحاق بن راهويه أنه قال . من ترك مسحهما عمدا لم تصح طهارته وهو محجوج بإجماع من قبله وبالحديث الذي ذكره المصنف والله أعلم .

                                      وحكى القاضي أبو الطيب وغيره عن الشيعة أنهم قالوا : لا يستحب مسح الأذنين لأنه لا ذكر لهما في القرآن ، ولكن الشيعة لا يعتد بهم في الإجماع ، وإن تبرعنا بالرد عليهم فدليله الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها ، ولا يلزم من كونه لم يذكر في القرآن أنه لا يكون سنة للأحاديث الصحيحة والله أعلم .

                                      ( فرع ) حكى صاحب الحاوي والمستظهري عن أبي العباس بن سريج - رحمه الله أنه كان يغسل أذنيه ثلاثا مع الوجه كما قال الزهري ، ويمسحهما مع الرأس كما قال الآخرون ، ويمسحهما على الانفراد ثلاثا كما قال الشافعي . قال صاحب الحاوي : ولم يكن ابن سريج يفعل ذلك واجبا بل احتياطا ليخرج من الخلاف . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح : لم يخرج ابن سريج بهذا من الخلاف بل زاد فيه ، فإن الجمع بين الجميع لم يقل به أحد ، وهذا الاعتراض مردود لأن ابن سريج لا يوجب ذلك ، بل يفعله استحبابا واحتياطا كما سبق ، وذلك غير ممنوع بالإجماع بل محبوب . وكم من موضع مثل هذا اتفقوا على استحبابه للخروج من الخلاف ، وإن كان لا يحصل ذلك إلا بفعل أشياء لا يقول بإيجابها كلها أحد . [ ص: 447 ] وقد قدمنا قريبا أن الشافعي والأصحاب - رحمهم الله قالوا : يستحب غسل النزعتين مع الوجه وهما مما يمسح عند الشافعي ، إذ هما من الرأس ، واستيعابه بالمسح مأمور به بالإجماع ، وإنما استحبوا غسلهما للخروج من خلاف من قال : هما من الوجه ، ولم يقل أحد بوجوب غسلهما ومسحهما . ومع هذا استحبه الشافعي والأصحاب ، ونظائر ذلك كثيرة مشهورة ، فالصواب استحسان فعل ابن سريج - رحمه الله والله أعلم




                                      الخدمات العلمية