الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( قال في الأم : فإن أمر غيره حتى يممه ونوى هو جاز كما يجوز في الوضوء وقال ابن القاص : " لا يجوز قلته تخريجا " . وقال في الأم : وإن سفت عليه الريح ترابا عمه فأمر يديه على وجهه لم يجزه لأنه لم يقصد الصعيد ، وقال القاضي أبو حامد : هذا محمول عليه إذا لم يقصد ، فأما إذا صمد للريح فسفت عليه التراب أجزأه وهذا خلاف المنصوص ) .

                                      [ ص: 273 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) في الفصل مسألتان : ( إحداهما ) إذا يممه غيره بإذنه ، ونوى الآمر إن كان معذورا ، كأقطع ومريض وغيرهما جاز بلا خلاف ، وإن كان قادرا فوجهان الصحيح والمنصوص جوازه كالوضوء وبهذا قال جمهور الأصحاب . والثاني : لا يجوز وهو قول ابن القاص ، وقوله قلته تخريجا هو من كلام ابن القاص ، وإنما قال هذا لأن عادته في كتابه التلخيص أن يذكر المسائل التي نص عليها الشافعي ، ويقول عقبه قاله نصا ، وإذا قال شيئا غير منصوص وقد خرجه هو قال : قلته تخريجا ، وهذه المسألة خرجها من التي بعدها وهي مسألة الريح . وابن القاص - بتشديد الصاد المهملة - هو أبو العباس وقد ذكرت في أبواب المياه ، أما إذا يممه غيره بغير أمره وهو مختار ونوى ، فهو كما لو صمد في الريح . قاله إمام الحرمين والغزالي وغيرهما وهو واضح .

                                      ( المسألة الثانية ) إذا ألقت عليه الريح ترابا استوعب وجهه ثم يديه ، فإن [ ص: 271 ] لم يقصدها لم يجزه بلا خلاف ، وإن قصدها وصمد لها ففيه خلاف مشهور حكاه الأصحاب وجهين وحقيقته قولان .

                                      ( أحدهما ) : لا يصح وهو الصحيح نص عليه في الأم وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين ، وقطع به جماعات من المتأخرين وصححه جمهور الباقين ونقله إمام الحرمين عن الأئمة مطلقا ، قال : والوجه الآخر ليس معدودا من المذهب .

                                      ( والثاني ) : يصح ، وهو قول القاضي أبي حامد ، واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني ، قال الروياني في كتابيه البحر والحلية : واختاره الحليمي والقاضي أبو الطيب وجماعة قال : وهو الاختيار والأصح ، وحكاه صاحب التتمة قولا قديما ، والمذهب الأول ، وصورة المسألة إذا قصد ثم وقع عليه التراب فلو وقع عليه ثم قصد لم يجزه بلا خلاف ، وهذا - وإن كان ظاهرا يفهم من كلام المصنف - فلا يضر إيضاحه . وقوله : " ترابا عمه " هو بالعين المهملة ، أي استوعبه هذا هو المشهور المعروف ، وذكره أبو القاسم بن البزري وغيره - بالغين المعجمة - أي غطاه وهو صحيح أيضا وبمعنى الأول لكن الأول أجود ، وقوله : " صمد " هو بالصاد والميم على وزن قصد وبمعناه والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا كان على بعض أعضائه تراب فتيمم به نظر إن أخذه من غير أعضاء التيمم ومسحها به جاز بلا خلاف ، نص عليه الشافعي والأصحاب ، كما لو أخذه من الأرض ، وإن كان على وجهه فرده عليه ومسحه به لم يجزه بلا خلاف لعدم النقل ، وإن أخذه من الوجه ومسح به أو أخذه من اليد ومسح به الوجه فوجهان ، أصحهما هو نصه في الأم جوازه لوجود النقل ، ولو أخذه من الوجه ففصله ثم رده إليه ، أو أخذه من اليد ففصله ثم رده إليها فطريقان حكاهما صاحب التهذيب وغيره ، أصحهما على الوجهين ، والثاني : لا يجوز وجها واحدا ، لأنه ليس بنقل حقيقي ، ولو تمعك في التراب فوصل وجهه ويديه ، إن كان لعذر كالأقطع وغيره جاز بلا خلاف وإلا فوجهان الصحيح جوازه ، صححه الأصحاب ونقله الروياني عن نصه في الأم . قال إمام الحرمين : الوجه القطع بالجواز . قال : ولا أرى للخلاف وجها لأن الأصل قصد التراب وقد حصل ، ولو مد يده فصب غيره فيها [ ص: 272 ] ترابا ، أو ألقت الريح ترابا على كمه فمسح به وجهه أو أخذه من الهواء فمسح به فوجهان الأصح جوازه ، صححه الروياني والرافعي وغيرهما .



                                      فرع في مسائل تتعلق بما سبق ( إحداها ) ينبغي أن يمسح وجهه بالتراب ولا يقتصر على وضعه عليه ، فإن ضرب يده على التراب ثم وضعها على وجهه ولم يمرها ، فقد قال البغوي والرافعي : يجوز على أصح الوجهين كما قلنا في مسح الرأس ، وقطع الشيخ أبو محمد في الفروق والمتولي بأنه لا يجزيه ، قال المتولي : بخلاف الوضوء فإن الماء إذا وضع على العضو يحس به ويسيل والتراب لا يتعدى ، فيتحقق وصول الماء إلى جميع العضو ، ولا يتحقق في التراب إلا بإمرار اليد . قال : حتى لو لم يتحقق وصول الماء وجب الإمرار ، ولو تحقق وصول التراب بأن كان كثيرا صح تيممه .



                                      ( الثانية ) قال القاضي حسين البغوي : إذا أحدث المتيمم بعد أخذه التراب وقبل المسح بطل ذلك الأخذ وعليه الأخذ ثانيا ، بخلاف ما لو أحدث بعد أخذ الماء بل غسل الوجه فإنه لا يضره لأن المطلوب في الوضوء الغسل لا نقل الماء وهنا المطلوب نقل التراب ، وأما إذا يممه غيره ، فقال القاضي : يجب أن ينوي الآمر عند ضرب المأمور يده على الأرض ، فلو أحدث أحدهما بعد النية والضرب لم يضر ، بل يجوز أن يمسح بعد ذلك ، بخلاف ما لو أخذ التراب بنفسه ثم أحدث فإنه يبطل الأخذ لأن هناك وجد هيئة القصد الحقيقي فصار كما لو استأجر رجلا ليحج عنه ، ثم جامع المستأجر في مدة إحرام الأجير فإنه لا يفسد الحج . قال الرافعي : هذا الذي قاله القاضي مشكل وينبغي أن يبطل بحدث الآمر .



                                      ( الثالثة ) إذا ضرب يده على تراب على بشرة امرأة أجنبية - فإن كان التراب كثيرا يمنع التقاء البشرتين - صح تيممه وإلا فلا . كذا قاله القاضي حسين ، ونحوه في التهذيب وغيره ، لأن الملامسة حدث قارن النقل وهو ركن فصار كمقارنته مسح الوجه . وقال المتولي : أخذه لوجهه صحيح ولا يضر اللمس معه ، لأن العبادة هي المسح لا الأخذ . فإن أخذ بعد ذلك ليديه بطل مسح وجهه لأنه أحدث قال الرافعي : قول القاضي هو الوجه



                                      [ ص: 273 ] الرابعة ) إذا كانت يده نجسة فضربها على تراب طاهر ومسح بها وجهه جاز على أصح الوجهين ، وبه قطع البغوي والروياني ، وقد تقدمت المسألة في باب الاستطابة . ولا يصح مسح اليد النجسة بلا خلاف ، كما لا يصح غسلها في الوضوء مع بقائها نجسة . ولو تيمم ثم وقعت عليه نجاسة فقال إمام الحرمين : لا يبطل تيممه قطعا وقال المتولي : فيه وجهان كما لو تيمم ثم ارتد لأنها تمنع إباحة الصلاة . والصواب قول الإمام . ولو تيمم قبل الاجتهاد في القبلة ففي صحته وجهان ، كما لو تيمم وعليه نجاسة ، ذكره في البحر ، ولو تيمم مكشوف العورة صح بالاتفاق ، وقد ذكرناه في باب الاستطابة .



                                      ( الخامسة ) قال أصحابنا : إذا قطعت يده من بعض الساعد ، وجب مسح ما بقي من محل الفرض ، فإن قطع من فوق المرفق فلا فرض عليه ، ويستحب أن يمس الموضع ترابا كما سبق في الوضوء . حتى قال البندنيجي والمحاملي : لو قطع من المنكب استحب أن يمسح المنكب كما قلنا في الوضوء وبهذا اللفظ نص عليه الشافعي في الأم ، قال العبدري : هذا الذي ذكرناه من استحباب غسل موضع القطع فوق المرفق في الوضوء ومسحه بالتراب في التيمم هو مذهبنا ومذهب مالك وزفر وأحمد وداود ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : يجب غسله في الوضوء ، ومسحه في التيمم . دليلنا أنه فات محل الوجوب ، قال أصحابنا : وكل ما ذكرناه في الوضوء من الفروع في قطع اليد وزيادة الكف والأصبع وتدلي الجلدة يجيء مثله في التيمم ، قال الدارمي : لو انقطعت أصابعه وبقيت متعلقة باليد فهل ييممها ؟ فيه وجهان ( قلت ) قياس المذهب القطع بوجوب التيمم ، ولو لم يخلق له مرفق استظهر حتى يعلم . قال أصحابنا : ولو كان في أصبعه خاتم فلينزعه في ضربة اليدين ليدخل التراب تحته ، قال صاحب العدة وغيره : ولا يكفيه تحريكه بخلاف الوضوء لأن الماء يدخل تحته بخلاف التراب .



                                      ( السادسة ) يتصور تجديد التيمم في حق المريض والجريح ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء إذا تيمم وصلى فرضا ثم أراد نافلة ، ويتصور في حق من لا يتيمم إلا مع عدم الماء إذا تيمم وصلى فرضا ولم يفارق موضعه وقلنا لا يجب الطلب ثانيا ، وهل يستحب التجديد في هذين الموضعين ؟ فيه [ ص: 274 ] وجهان حكاهما الشاشي المشهور : لا يستحب ، وبه قطع القفال والقاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي والروياني وآخرون لأنه لم ينقل فيه سنة ولا فيه تنظيف ، واختار الشاشي استحبابه كالوضوء .



                                      ( السابعة ) اتفق أصحابنا أنه يشترط إيصال الغبار إلى جميع بشرة اليد من أولها إلى المرفق ، فإن بقي شيء من هذا لم يمسه غبار لم يصح تيممه . وزاد الشافعي هذا بيانا فقال في الأم : لو ترك من وجهه أو يديه قدرا يدركه الطرف أو لا يدركه لم يمر عليه التراب ، لم يصح تيممه وعليه إعادة كل صلاة صلاها كذلك . ونقل إمام الحرمين هذا عن الأصحاب ثم قال : وهذا مشكل فإن الضربة الثانية التي لليدين إذا ألصقت ترابا بالكفين فالظاهر أنه يصل ما لصق بالكف إلى مثل سعتها من الساعدين ، ولست أظن ذلك الغبار ينبسط على الساعدين ظهرا وبطنا ثم على ظهور الكفين ، وقد ورد الشرع بالاقتصار على ضربتين ، وهذا مشكل جدا فلا يتجه إلا مسلكان ( أحدهما ) المصير إلى القول القديم وهو الاكتفاء بمسح الكفين ( والثاني ) أن نوجب إثارة الغبار ، ثم نكتفي بإيصال جرم اليد مسحا إلى الساعدين من غير تكليف بسط التراب في عينه ، والذي ذكره الأصحاب أنه يجب إيصال التراب إلى جميع محل التيمم يقينا . فإن شك وجب إيصال التراب إلى موضع الشك حتى يتيقن انبساط التراب على جميع المحل ونحن نقطع بأن هذا ينافي الاقتصار على ضربة واحدة لليدين ، فالذي يجب اعتقاده أن الواجب استيعاب المحل بالمسح باليد المغبرة من غير ربط الفكر بانبساط الغبار ، وهذا شيء أظهرته ولم أر بدا منه وما عندي أن أحدا من الأصحاب يسمح بأنه لا يجب بسط التراب على الساعدين .

                                      هذا كلام إمام الحرمين ، وهذا الذي اختاره ظاهر والله أعلم .



                                      ( فرع ) مذهبنا أنه يجب إيصال التراب إلى جميع البشرة الظاهرة من الوجه والشعر الظاهر عليه قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء . وعن أبي حنيفة روايات ( إحداها ) كمذهبنا وهي التي ذكرها الكرخي في مختصره ( والثانية ) إن ترك قدر درهم منه لم يجزه ودونه يجزيه ( والثالثة ) : إن ترك دون ربع الوجه أجزأه وإلا فلا . [ ص: 275 ] والرابعة ) إن مسح أكثره وترك الأقل منه أو من الذراع أجزأه وإلا فلا . حكاه الطحاوي عنه وعن أبي يوسف وزفر . وحكى ابن المنذر عن سليمان بن داود أنه جعله كمسح الرأس دليلنا بيان النبي صلى الله عليه وسلم وقد استوعب الوجه ، والقياس على الوضوء والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية