الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 1026 ) مسألة : قال : ( في كل وقت نهي عن الصلاة فيه ، وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ) اختلف أهل العلم في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ; فذهب أحمد ، رحمه الله ، إلى أنها من بعد الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وحال قيام الشمس حتى تزول ، وعدها أصحابه خمسة أوقات ; من الفجر إلى طلوع الشمس وقت ، ومن طلوعها إلى ارتفاعها وقت ، وحال قيامها وقت ، ومن العصر إلى شروع الشمس في الغروب وقت ، وإلى تكامل الغروب وقت .

                                                                                                                                            والصحيح أن الوقت الخامس من حين تتضيف الشمس للغروب إلى أن تغرب ; لأن عقبة بن عامر قال : ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن ، وأن نقبر فيهن موتانا ; حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل ، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب . فجعل هذه ثلاثة أوقات ، وقد ثبت لنا وقتان آخران بحديث عمر وأبي سعيد ، فيكون الجميع خمسة . ومن جعل الخامس وقت الغروب ، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بالنهي في حديث ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز ، وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب } . وفي حديث : { ولا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها } . وعلى كل حال فهذه الأوقات المذكورة منهي عن الصلاة فيها ، وهو قول الشافعي ، وأصحاب الرأي . وقال ابن المنذر : إنما المنهي عنه الأوقات الثلاثة التي في حديث عقبة ; بدليل تخصيصها بالنهي في حديثه وحديث ابن عمر .

                                                                                                                                            وقوله : { لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة } . رواه أبو داود . وقالت عائشة : وهم عمر إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحرى طلوع الشمس أو غروبها . [ ص: 429 ] ولنا ما ذكرنا من الأحاديث في أول الباب ، وهي صحيحة صريحة ، والتخصيص في بعض الأحاديث لا يعارض العموم الموافق له ، بل يدل على تأكد الحكم فيما خصه ، وقول عائشة في رد خبر عمر غير مقبول ، فإنه مثبت لروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول برأيها ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم أصح من قولها ، ثم هي قد روت ذلك أيضا ، فروى ذكوان مولى عائشة ، أنها حدثته ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العصر ، وينهى عنه } . رواه أبو داود ، فكيف يقبل ردها لما قد أقرت بصحته ، وقد رواه أبو سعيد ، وعمرو بن عبسة ، وأبو هريرة ، وابن عمر ، والصنابحي ، وأم سلمة ، كنحو رواية عمر ، فلا يترك هذا بمجرد رأي مختلف متناقض .

                                                                                                                                            ( 1027 ) فصل : والنهي عن الصلاة بعد العصر متعلق بفعل الصلاة ، فمن لم يصل أبيح له التنفل ، وإن صلى غيره . ومن صلى العصر فليس له التنفل وإن لم يصل أحد سواه . لا نعلم في هذا خلافا عند من يمنع الصلاة بعد العصر . فأما النهي بعد الفجر فيتعلق بطلوع الفجر ، وبهذا قال سعيد بن المسيب ، والعلاء بن زياد ، وحميد بن عبد الرحمن ، وأصحاب الرأي . وقال النخعي : كانوا يكرهون ذلك . يعني التطوع بعد طلوع الفجر . ورويت كراهته عن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عمرو .

                                                                                                                                            وعن أحمد رواية أخرى ، أن النهي متعلق بفعل الصلاة أيضا كالعصر . وروي نحو ذلك عن الحسن ، والشافعي ; لما روى أبو سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس } . رواه مسلم ، وروى أبو داود حديث عمر بهذا اللفظ . وفي حديث عمرو بن عبسة قال : { صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة ، كذا } رواه مسلم . وفي رواية أبي داود قال : { قلت يا رسول الله ، أي الليل أسمع ؟ قال : جوف الليل الآخر ، فصل ما شئت ، فإن الصلاة مكتوبة مشهودة حتى تصلي الصبح ، ثم أقصر حتى تطلع الشمس ، فترتفع قدر رمح أو رمحين } . ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في العصر علق على الصلاة دون وقتها ، فكذلك الفجر ، ولأنه وقت نهي بعد صلاة ، فيتعلق بفعلها ، كبعد العصر . والمشهور في المذهب الأول ; لما روى { يسار مولى ابن عمر ، قال : رآني ابن عمر وأنا أصلي بعد طلوع الفجر فقال : يا يسار ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج علينا ونحن نصلي هذه الصلاة ، فقال : ليبلغ شاهدكم غائبكم ، لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين } . رواه أبو داود ، وفي لفظ : { لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا سجدتان } . رواه الدارقطني . وفي لفظ : { إلا ركعتي الفجر } ، وقال : هو غريب ، رواه قدامة بن موسى . وقد روى عنه غير واحد من أهل العلم . وقال : هذا ما أجمع عليه أهل العلم .

                                                                                                                                            وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر } . وهذا يبين مراد النبي صلى الله عليه وسلم من اللفظ المجمل ، ولا يعارضه تخصيص ما بعد الصلاة بالنهي ، فإن ذلك دليل خطاب ، وهذا منطوق ، فيكون أولى . وحديث عمرو بن عبسة قد اختلفت ألفاظ الرواة فيه ، وهو في سنن ابن ماجه : { حتى يطلع الفجر } .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية