الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 212 ] مسألة : والنوم في ذاته حدث ينقض الوضوء سواء قل أو كثر ، قاعدا أو قائما ، في صلاة أو غيرها ، أو راكعا كذلك أو ساجدا كذلك أو متكئا أو مضطجعا ، أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا . برهان ذلك ما حدثناه يونس بن عبد الله وعبد الله بن ربيع قالا : ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ويحيى بن آدم وقتيبة بن سعيد قال محمد ثنا شعبة وقال قتيبة ثنا سفيان بن عيينة وقال يحيى ثنا سفيان الثوري وزهير هو ابن معاوية - ومالك بن مغول وسفيان بن عيينة واللفظ ليحيى ، ثم اتفق شعبة وسفيان وزهير وابن مغول عن عاصم بن أبي النجود عن { زر بن حبيش قال : سألت صفوان بن عسال عن المسح على الخفين فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أن نمسح على خفافنا ولا ننزعها ثلاثة أيام من غائط وبول ونوم إلا من جنابة } . ولفظ شعبة في روايته { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا إذا كنا مسافرين ألا ننزعه ثلاثا إلا من جنابة ، لكن من غائط وبول ونوم } فعم عليه السلام كل نوم ، ولم يخص قليله من كثيره ، ولا حالا من حال ، وسوى بينه وبين الغائط والبول ، وهذا قول أبي هريرة وأبي رافع وعروة بن الزبير وعطاء والحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة والزهري والمزني وغيرهم كثير .

                                                                                                                                                                                          وذهب الأوزاعي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء كيف كان . وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن عمر وعن مكحول وعبيدة السلماني نذكر بعض ذلك بإسناده ; لأن الحاضرين من خصومنا لا يعرفونه ، ولقد ادعى بعضهم الإجماع على خلافه جهلا وجرأة . [ ص: 213 ] حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون الصلاة فيضعون جنوبهم فمنهم من ينام ثم يقومون إلى الصلاة " .

                                                                                                                                                                                          حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن حبيب الحارثي ثنا خالد هو ابن الحارث - ثنا شعبة عن قتادة قال سمعت أنسا يقول " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينامون ثم يصلون ولا يتوضئون " فقلت لقتادة : سمعته من أنس ؟ قال إي والله . قال أبو محمد : لو جاز القطع بالإجماع فيما لا يتيقن أنه لم يشذ عنه أحد لكان هذا يجب أن يقطع فيه بأنه إجماع ، لا لتلك الأكاذيب التي لا يبالي من لا دين له بإطلاق دعوى الإجماع فيها . وذهب داود بن علي إلى أن النوم لا ينقض الوضوء إلا نوم المضطجع فقط ، وهو قول روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن ابن عباس ، ولم يصح عنهما ، وعن ابن عمر صح عنه ، وصح عن إبراهيم النخعي وعن عطاء والليث وسفيان الثوري والحسن بن حي . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا ينقض النوم الوضوء إلا أن يضطجع أو يتكئ أو متوكئا على إحدى أليتيه أو إحدى وركيه فقط ، ولا ينقضه ساجدا أو قائما أو قاعدا أو راكعا ، طال ذلك أو قصر . وقال أبو يوسف : إن نام ساجدا غير متعمد فوضوءه باق ، وإن تعمد ذلك بطل وضوءه ، وهو لا يفرق بين العمد والغلبة فيما ينقض الوضوء والصلاة من غير هذا ، وهو قول لا نعلمه عن أحد من المتقدمين إلا أن بعضهم ذكر ذلك عن حماد بن أبي سليمان والحكم ، ولا نعلم كيف قالا .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك وأحمد بن حنبل : من نام نوما يسيرا وهو قاعد لم ينتقض وضوءه وكذلك النوم القليل للراكب ، وقد روي عنه نحو ذلك في السجود أيضا ، ورأي أيضا فيما عدا هذه الأحوال أن قليل النوم وكثيره ينقض الوضوء ، وهو قول الزهري وربيعة ، وذكر عن ابن عباس ولم يصح . وقال الشافعي : جميع النوم ينقض الوضوء ، قليله وكثيره إلا من نام جالسا غير [ ص: 214 ] زائل عن مستوى الجلوس ، فهذا لا ينتقض وضوءه ، طال نومه أو قصر ، وما نعلم هذا التقسيم يصح عن أحد من المتقدمين ، إلا أن بعض الناس ذكر ذلك عن طاوس وابن سيرين ولا نحققه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتج من لم ير النوم حدثا بالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من { أنه كان ينام ولا يعيد وضوءا ثم يصلي } . قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم ، لأن { عائشة رضي الله عنها ذكرت أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتنام قبل أن توتر ؟ قال : إن عيني تنامان ولا ينام قلبي } فصح أنه عليه السلام بخلاف الناس في ذلك ، وصح أن نوم القلب الموجود من كل من دونه هو النوم الموجب للوضوء ، فسقط هذا القول . ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا من حجة من لا يرى الوضوء من النوم إلا من الاضطجاع حديثا روي فيه { إنما الوضوء على من نام مضطجعا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله } وحديثا آخر فيه { أعلي في هذا وضوء يا رسول الله ؟ قال : لا إلا أن تضع جنبك } وحديثا آخر فيه { من وضع جنبه فليتوضأ } . قال أبو محمد : وهذا كله لا حجة فيه . أما الحديث الأول فإنه من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس ، وعبد السلام ضعيف لا يحتج به ، ضعفه ابن المبارك وغيره ، والدالاني ليس بالقوي ، روينا عن شعبة أنه قال : لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربعة أحاديث ، ليس هذا منها ، فسقط جملة ولله الحمد . والثاني لا تحل روايته إلا على بيان سقوطه ; لأنه رواية بحر بن كنيز السقاء ، وهو لا خير فيه متفق على إطراحه ، فسقط جملة . [ ص: 215 ] والثالث رواه معاوية بن يحيى وهو ضعيف يحدث بالمناكير فسقط هذا الباب كله وبالله تعالى نتأيد .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا حديثا فيه { إذا نام العبد ساجدا باهى الله به الملائكة } وهذا لا شيء ; لأنه مرسل لم يخبر الحسن ممن سمعه ، ثم لو صح لم يكن فيه إسقاط الوضوء عنه . وذكروا أيضا حديثين صحيحين أحدهما عن عطاء عن ابن عباس ، والآخر من طريق ابن جريج عن نافع عن ابن عمر فيهما { : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة حتى نام الناس ثم استيقظوا ثم ناموا ، ثم استيقظوا ، فجاء عمر فقال : الصلاة يا رسول الله فصلوا ، ولم يذكر أنهم توضئوا } . قال أبو محمد : والثاني من طريق شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس { : أقيمت الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا ، فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه ، ثم جاء فصلى بهم } وحديثا ثابتا من طريق عروة عن عائشة قالت : { أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء ، حتى ناداه عمر : نام النساء والصبيان ، فخرج عليه السلام } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وكل هذا لا حجة فيه ألبتة لمن فرق بين أحوال النائم ولا بين أحوال النوم ، لأنها ليس في شيء منها ذكر حال من نام كيف نام ، من جلوس أو اضطجاع أو اتكاء أو تورك أو استناد ، وإنما يمكن أن يحتج بها من لا يرى الوضوء من النوم أصلا ، ومع ذلك فلا حجة لهم في شيء منه ; لأنه ليس في شيء منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم بنوم من نام ، ولم يأمره بالوضوء ، ولا حجة لهم إلا فيما علمه النبي صلى الله عليه وسلم فأقره ، أو فيما أمر به ، أو فيما فعله ، فكيف وفي حديث ابن عمر وعائشة { أنه لم يكن إسلام يومئذ إلا بالمدينة } ، فلو صح أنه عليه السلام علم ذلك منهم لكان حديث صفوان ناسخا له ; لأن إسلام صفوان متأخر فسقط التعلق بهذه الأخبار جملة ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 216 ] وأما قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد فلا متعلق لمن ذهب إلى شيء منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا بعمل صحابة ولا بقول صح عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا بقياس ولا باحتياط ، وهي أقوال مختلفة كما ترى ليس لأحد من مقلديهم أن يدعي عملا إلا كان لخصومه أن يدعي لنفسه مثل ذلك وقد لاح أن كل ما شغبوا به من أفعال الصحابة رضي الله عنهم فإنما هو إيهام مفتضح ، لأنه ليس في شيء من الروايات أنهم ناموا على الحال التي يسقطون الوضوء عمن نام كذلك ، فسقطت الأقوال كلها من طريق السنن إلا قولنا . والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما من طريق النظر فإنه لا يخلو النوم من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكون النوم حدثا وإما أن لا يكون حدثا ، فإن كان ليس حدثا فقليله وكثيره ، كيف كان لا ينقض الوضوء ، وهذا خلاف قولهم ، وإن كان حدثا فقليله وكثيره - كيف كان - ينقض الوضوء ، وهذا قولنا فصح أن الحكم بالتفريق بين أحوال النوم خطأ وتحكم بلا دليل ، ودعوى لا برهان عليها . فإن قال قائل : إن النوم ليس حدثا ، وإنما يخاف أن يحدث فيه المرء ، قلنا لهم : هذا لا متعلق لكم بشيء منه ، لأن الحدث ممكن كونه من المرء في أخف ما يكون من النوم ، كما هو ممكن أن يكون منه في النوم الثقيل وممكن أن يكون من الجالس كما هو ممكن أن يكون من المضطجع ، وقد يكون الحدث من اليقظان ، وليس الحدث عملا يطول ، بل هو كلمح البصر ، وقد يمكن أن يكون النوم الكثير من المضطجع لا حدث فيه ، ويكون الحدث في أقل ما يكون من نوم الجالس ، فهذا لا فائدة لهم فيه أصلا ، وأيضا فإن خوف الحدث ليس حدثا ولا ينتقض به الوضوء ، وإنما ينقض الوضوء يقين الحدث . وبالله تعالى التوفيق . وإذ الأمر كما ذكرنا فليس إلا أحد أمرين : إما أن يكون خوف كون الحدث حدثا ، فقليل النوم وكثيره يوجب نقض الوضوء ، لأن خوف الحدث جار فيه ، وإما أن [ ص: 217 ] يكون خوف الحدث ليس حدثا ، فالنوم قليله وكثيره لا ينقض الوضوء وبطلت أقوال هؤلاء على كل حال بيقين لا شك فيه . وقد ذكر قوم أحاديث منها ما يصح ومنها ما لا يصح ، يجب أن ننبه عليها بعون الله تعالى . منها حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم ; لأن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه } ، وفي بعض ألفاظه { لعله يدعو على نفسه وهو لا يدري } وحديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم { إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يدري ما يقرأ } . قال أبو محمد : هذان صحيحان ، وهما حجة لنا ، لأن فيهما أن الناعس لا يدري ما يقرأ ولا ما يقول ، والنهي عن الصلاة على تلك الحال جملة ، فإذ الناعس لا يدري ما يقول فهو في حال ذهاب العقل بلا شك ، ولا يختلفون أن من ذهب عقله بطلت طهارته ، فيلزمهم أن يكون النوم كذلك . والآخر من طريق معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم { العينان وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء } والثاني من طريق علي عن النبي صلى الله عليه وسلم { العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ } .

                                                                                                                                                                                          قال علي بن أحمد : لو صحا لكانا أعظم حجة لقولنا ، لأن فيهما إيجاب [ ص: 218 ] الوضوء من النوم جملة ، دون تخصيص حال من حال ، ولا كثير نوم من قليله ، بل من كل نوم نصا ، ولكنا لسنا ممن يحتج بما لا يحل الاحتجاج به نصرا لقوله ، ومعاذ الله من ذلك .

                                                                                                                                                                                          وهذان أثران ساقطان لا يحل الاحتجاج بهما . أما حديث معاوية فمن طريق بقية وهو ضعيف ، عن أبي بكر بن أبي مريم وهو مذكور بالكذب عن عطية بن قيس وهو مجهول . وأما حديث علي فراويه أيضا بقية عن الوضين بن عطاء ، وكلاهما ضعيف ، وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية