الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ( وإذا وهب دينا له عليه ، فقبله : لم يكن له أن يرجع فيه ) ; لأنه سقط عنه ; فإنه قابض للدين بذمته ، فيملك بالقبول ، ومن ملك دينا عليه : سقط ذلك عنه ، والساقط يكون متلاشيا ، فلا يتحقق الرجوع فيه - كما لو كان عينا فهلك عنده - قال : ( فإن قال الموهوب له مكانها : لا أقبلها ، فالدين عليه بحاله ) ، والحاصل أن هبة الدين ممن عليه الدين لا تتم إلا بالقبول والإبراء يتم من غير قبول ، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء الله ، وعن زفر رحمه الله أنه يسوي بينهما ، وقال : تتم الهبة والإبراء قبل القبول بناء على أصله ، أنه [ ص: 84 ] يعتبر ما هو المقصود ، والمقصود في الوجهين : الإسقاط دون التمليك ; لأن ما في الذمة ليس بمحل للتمليك ، ولكنه مجرد مطالبة يحتمل الإسقاط ، ولكن عند زفر رحمه الله إن رده المديون صح رده في الوجهين جميعا ، وكان ابن شجاع رحمه الله يقول : لا يعمل رده ; لأن الإسقاط يتم بالمسقط ، والمسقط يكون متلاشيا فلا يتصور فيه الرد ، وقاس ذلك بالطلاق والعتاق ، والعفو عن القصاص ، ولكنا نقول : الدين مملوك للطالب في ذمة المديون فيكون قابلا للتملك بملك العين ، ويجعل ذلك في الحكم كأنه ذلك الدين - خصوصا في السلم والصرف - فإذا ثبت أنه قابل للتمليك - والهبة عقد تمليك - فإذا ذكر لفظ الهبة ، وجب اعتبار معنى التمليك فيه ، والتمليك لا يتم بالملك قبل قبول الآخر ; لأن أحدا لا يملك إدخال الشيء في ملك غيره ، قصدا من غير قبوله .

وهو محتمل للإسقاط أيضا ; لأنه في الحقيقة ليس إلا مجرد حق المطالبة ، وإبراء إسقاط ، إذا ذكر لفظ الإبراء ، وكان تصرفه إسقاطا - والإسقاط تصرف من المسقط في خالص حقه - ; فلهذا يتم بنفسه ، ولكنه يتضمن معنى التمليك من وجه ; لما بينا أن الدين مملوك في ذمته ; فإنما يسقط عنه إذا ملكه ، فلاعتبار هذا المعنى قلنا : له إن يرده بخلاف الطلاق ، والعتاق ; فإنه إسقاط محض لا يتضمن معنى التمليك ، حتى إن الإبراء لو كان إسقاطا محضا لم يرتد بالرد أيضا ، وهو إبراء الكفيل ; فإنه إسقاط محض لأن الدين يبقى على الأصل على حاله فلا يرتد برد الكفيل - والهبة من الكفيل تمليك منه - حتى يرجع على المكفول عنه ، فلا يتم إلا بقبوله . فإن كان الموهوب له غائبا ، ولم يعلم بالهبة ، حتى مات : جازت الهبة ، وبريء مما عليه ، وهذا الاستحسان . فأما في القياس : لا يبرأ ، فأصله في الموصى له ، إذا مات بعد موت الموصي قبل قبوله ، في القياس : تبطل الوصية ; لأنه قبل القبول لم يملك وإنما يخلفه وارثه في ملكه بعد موته . وفي الاستحسان : جعل موته بمنزلة القبول ، فكذلك هنا في الاستحسان يجعل موت الموهوب له بمنزلة قبوله قال : ( وإن وهبه له ، وهو معه قائم فسكتا حتى افترقا : جازت الهبة ) ، وهذا استحسان أيضا فإن سكوته عن الرد دليل على رضاه بالهبة منه عرفا ، ودليل الرضا كصريح الرضا ; ألا ترى أن السكوت من البكر جعل إجازة لعقد الولي - استحسانا - ، فهذا مثله . ومن مشايخنا رحمهم الله من بنى الجواب في هذا الفصل على الظاهر ، ويقول : هبة الدين ممن عليه الدين بمنزلة الإبراء يتم بنفسه من غير قبول ، وإن كان له حق الرد فيها ، فالموت قبل الرد يبطل حقه في الرد ويبقى تاما في نفسه ، وكذلك بالسكوت حتى افترقا ينعدم الرد فتبقى الهبة تامة ولكن الأول ، وهو الفرق بين الهبة والإبراء من حيث المعنى أصح ، ويتضح ذلك [ ص: 85 ] في الفرق بين إبراء الكفيل ، وبين هبة الدين منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية