الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وعلم مما قدمناه من كلام المؤلف أن أركان العمرة ثلاثة الإحرام والطواف والسعي : أما الإحرام فمتفق عليه عند المالكية والشافعية والحنابلة وعند الحنفية فيه الخلاف المتقدم ، أما الطواف فاتفق على ركنيته الأئمة الأربعة وأما السعي ففيه ما تقدم قال في الطراز : وجملة ذلك : أن السعي ركن من أركان الحج لا يتحلل من إحرامه إلا به ، وكذلك في العمرة ، ولا يجزئ عنه دم ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : هو واجب وليس بركن ويكون عنه الدم ، وهذه رواية ابن القصار عن القاضي إسماعيل عن مالك ، وقاله الثوري وإسحاق واختلف فيه قول ابن حنبل انتهى .

                                                                                                                            ويأتي فيها الكلام المتقدم على النية ، وكذلك التلبية وزاد الشافعي الحلاق ، والله أعلم .

                                                                                                                            والإحرام مصدر أحرم إذا دخل الحرم أو إذا دخل في حرمة الحج أو العمرة أو الصلاة كما يقال : أنجد وأتهم وأمسى وأصبح إذا دخل نجدا أو تهامة والمساء والصباح ; ولذلك يتناول قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الفريقين انتهى . من أول الباب الخامس من الذخيرة ، وقال في قتل الصيد : الأصل فيه قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد } الآية ، والحرم جمع محرم ، والمحرم من دخل الحرم ، أو في الحرمات فتتناول الآية السببين ومنه قول الشاعر

                                                                                                                            قتلوا ابن عفان الخليفة محرما فدعا فلم أر مثله مظلوما

                                                                                                                            أي في حرم المدينة والشهر الحرام ، وهو ذو الحجة انتهى . قال التادلي ، وفيه درك من وجهين : الأول : أن محرما ليس بمفرد حرم إنما مفرده حرام .

                                                                                                                            الثاني : أن حرما مطلق لا يتناول إلا أحد المعنيين على البدل لا على الجمع ثم ذكر عن الباجي أنه قال الحرم جمع حرام يقال : أحرم فهو محرم وحرام إذا أتى الحرم أو أحرم بحج أو عمرة ، وذكر البيت ثم قال : يريد في حرم المدينة ، ولا خلاف أنه لم يكن محرما بنسك فتحمل الآية على من كان في الحرم أو أحرم بحج أو عمرة انتهى .

                                                                                                                            والوجه الأول ظاهر وأما الثاني فما ذكره القرافي مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه ، ومذهب المالكية جوازه إذا كانت قرينة دالة على ذلك ، وإن لم تكن قرينة تحمله فيكون مجملا لا دلالة فيه والدليل هنا سياق الآية ويقال : أيضا في اللغة أحرم إذا دخل في ذمة وحرمة لا تنتهك ، ويقال أيضا إذا دخل في الشهر الحرام ذكره في الصحاح .

                                                                                                                            وأنشد عليه البيت المتقدم ، والحرم بضم الحاء وسكون الراء ، والتحريم أيضا الإحرام ، وفي الحديث : { كنت أطيبه لحله وحرمه } والحرمة ما لا يحل انتهاكه وكذا الحرمة بضم الراء وفتحها ، والأشهر الحرم أربعة معروفة كانت العرب لا تستحل فيها القتال إلا حيين خثعم وطيء وكان الذين ينسئون الشهور أيام الموسم يقولون : حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، وهي : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واختلف في كيفية عدها قيل : كما تقدم ، وقيل : من المحرم لتكون في سنة واحدة والحكمة ، والله أعلم . في تفرقتها كذلك لتصير وترا ، فإنه تعالى وتر يحب الوتر ، والله أعلم .

                                                                                                                            والحرم بكسر الحاء وسكون الراء كالحرام وقرئ وحرم على قرية أهلكناها قال الكسائي : أي واجب والحرمة بالكسر والسكون أيضا الغلمة بالضم ، وهي شهوة الجماع ، وفي الحديث { الذين تدركهم الساعة يبعث عليهم الحرمة ويسلبون الحياء } والحرمة أيضا : الحرمان ، والمحرم : من لا يحل نكاحها ، والمحروم قال ابن عباس هو المحارب انتهى .

                                                                                                                            من الصحاح بالمعنى ، هذا ما يتعلق به من اللغة ، أما في الشرع فقال [ ص: 14 ] ابن عرفة استشكل عز الدين معرفته وأبطل كونه التلبية بعدم ركنيتها وكونه النية بأنها شرط الحج وعرفه تقي الدين بأنه الدخول في أحد النسكين ، والتشاغل بأفعالهما ورده ابن عبد السلام بأن ما يدخل به النية والتلبية والتوجه لغير المكي ، والأولان له ، والواجب منهما النية فقط ، وغير الواجب لا يكون ركن الواجب ، ويرد بوجوب التوجه مطلقا لتوقف سائر الأركان عليه انتهى .

                                                                                                                            وقوله : مطلقا أي للمكي وغيره ثم قال الصقلي والقاضي هو اعتقاد الدخول في حج أو عمرة ( قلت : ) إن أراد تقي الدين حقيقة الدخول لزم كونه بعده غير محرم ، وإن أراد مطلق فعلهما لزم نفيه في الإحصار والنوم والإغماء ، ويبطل الثاني بنفيه في الآخرين والغافل عن اعتقاده ، وهم محرمون اتفاقا أو إجماعا ، ولا يرد بأن الدخول في حج مضاف إليه فتتوقف معرفته على الحج ، والإحرام جزؤه فتتوقف معرفته عليه فيدور لمنع الثانية لجواز معرفته بغير الحد التام انتهى .

                                                                                                                            وقوله : إن أراد حقيقة الدخول لم يذكر قسيمه ، وتقديره - والله أعلم - وإن لم يرد حقيقة الدخول بل تجوز وأطلق الدخول على حقيقته ، وهو أول ما يدخل فيه ، وعلى ما بعد ذلك فليس من شأن الحدود المجاز ، والله أعلم . وقوله : وإن أراد مطلق فعلهما هو إيراد ثان على قوله : والتشاغل بأفعالهما ، ولم يذكر قسيمه أيضا ، وتقديره - والله أعلم - وإن أراد فعلا من أفعال الحج بخصوصه فلم يبينه ، والله أعلم . وقوله : ويبطل الثاني أي : التعريف الثاني الذي عزاه للصقلي والقاضي .

                                                                                                                            ثم قال : وكلامهم غلط ، وسببه عدم الشعور بميز الإحرام عما به يقع الإحرام ، فالإحرام صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء وإلقاء الشعث والطيب ولبس الذكور المخيط والصيد لغير ضرورة ، ولا تبطل بما يمنعه قال : وعدم نقضه بإحرام الصلاة وحرمة الاعتكاف واضح انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) الظاهر : أنه غير جامع لخروج من حصل منه التحلل الأول فقط مع أنه محرم كما صرح به صاحب الطراز في آخر باب رمي جمرة العقبة وصاحب المعلم وغيرهما ونص كلام صاحب المعلم لما ذكر من حصل منه التحلل الأول وأن الصيد حرام عليه عندنا قال ودليلنا قوله تعالى : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ، وهذا يسمى محرما حتى يفيض ; لأن طواف الإفاضة أحد أركان الحج وفرائضه فلا يذهب عنه تسمية المحرم حتى يفعله انتهى .

                                                                                                                            . وبدليل أنه ممنوع من الوطء ومقدماته والصيد ، ولو اقتصر على قوله : يوجب حرمة مقدمات الوطء والصيد لدخل ذلك ، ولا يرد إحرام الصلاة ; لأنه لا يمنع الصيد ، ولا يرد منع من كان في المسجد الحرام من مقدمات الوطء والصيد ; لأن كونه فيه ليس صفة حكمية فليس داخلا في المحدود ، ولا يقال : حده غير مانع لدخول من حلف يمينا بترك مقدمات الوطء ما ذكره معها فيه ; لأنا نقول : ليست اليمين تمنع من فعل المحلوف عليه وتقضي تحريم الحلال إنما توجب الكفارة بالفعل فقط ، والله أعلم .

                                                                                                                            ما ذكره ابن عرفة عن الشيخ تقي الدين وشيخه ذكره ابن عبد السلام ، وذكر عن الشيخ تقي الدين أن الشيخ عز الدين كان يحرم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء ، ولفظ ابن عبد السلام في الإيراد الذي ذكره ابن عرفة لو قال المؤلف : هو الدخول لقيل : له الدخول حقيقة مركبة فيلزم أن تكون أجزاؤها واجبة ; لأن جزء الواجب واجب ، وليس من هذه الأجزاء بواجب إلا النية فيلزم أن تكون هي الإحرام ; لأن ما قارنها من تلبية وسير ليسا بركنين ، وهو الوجه الأول من اعتراض الشيخ عز الدين لكن فيه نظر ; لأنا نمنع أن النية شرط ، فإن قال : حقيقة الشرط منطبقة عليها ; لأنه يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ، وكذلك النية .

                                                                                                                            ( قلنا : ) لا نسلم أن ما ذكره حقيقة الشرط بل لا بد من زيادة ، وليس بداخل في الماهية أو ما يقوم مقام هذا اللفظ ، وإلا فركن الماهية وجزء علتها يشاركان الشرط فيما ذكرت فلا يكون حد [ ص: 15 ] الشرط مانعا انتهى .

                                                                                                                            وعرفه المصنف في مناسكه بأنه الدخول بالنية في أحد النسكين مع قول متعلق به كالتلبية أو فعل كالتوجه على الطريق انتهى . ويرد عليه ما تقدم ، وأنه غير شامل لمن أحرم بالنسكين أو مطلقا أو كإحرام زيد ، والله أعلم . وقال ابن الحاج : الإحرام هو الدخول في التحريم ، وهو أن يعتقد الإنسان الحج أو العمرة بنية ويلتزم بخالص معتقده تحريم الأشياء التي ينافيها الإحرام عن نفسه ما دام محرما انتهى .

                                                                                                                            . ويرد عليه أيضا ما تقدم ، وعرفه ابن العربي بأنه النية ، وعرفه ابن طلحة بأنه إخلاص النية ، وبحث ابن عرفة في تعريف من عرفه بأنه الدخول .

                                                                                                                            وأطال ، واعتراضه على ابن عرفة بذلك غير ظاهر ; لأن الإحرام في لسان الفقهاء يطلق على معنيين : أحدهما : الصفة المقتضية لحرمة الأمور المذكورة أعني الصفة التي ذكرها ، وهو بذلك غير النية والتوجه والدخول وجميع ما تقدم ، وهو المراد بقولهم : ينعقد الإحرام بكذا ، ويمنع الإحرام من كذا ، والمعنى الثاني : الدخول بالنية في حرمة أحد النسكين أو كلاهما مع القول أو الفعل المتعلقين به وبهذا المعنى يصح أن يقال : هو النية أو الدخول بالنية ، وهو المراد بقولهم : الإحرام ركن يجب الإتيان به ; لأن ما ذكر هو الذي يصح التكليف به ، وأما الصفة المذكورة فالتكليف بها إنما هو تكليف بما يصلح به ، وهو ما تقدم فكان تعريف الجماعة للإحرام الذي هو ركن أولى من تعريف ابن عرفة للصفة الناشئة عنه ; لأنهم بصدد بيان الأركان التي يطالب المكلف بالإتيان بها فتأمله ، والله أعلم .

                                                                                                                            ، فإن قيل : الركن ما كان داخل الماهية ، والإحرام ليس كذلك ; لأنه إنما ينعقد بالنية ، فالنية هي المميزة للحج من غيره والمميز خارج عن حقيقة المميز فيكون شرطا قيل : الجواب عنه من وجهين : الأول : أن المراد كونه ركنا أنه لا ينجبر بالدم ; لأنه جزء هكذا ذكره القرافي في الكلام على الميقات الزماني ، والثاني : أنه ، وإن كان كذلك لكن لما أن كان تنشأ عنه صفة تلازم تلك الماهية وتقارن جميع الأركان كلها صار كأنه جزء منها وداخل فيها ، والله أعلم .

                                                                                                                            والأصل في وجوبه فعله صلى الله عليه وسلم وأمره قاله ابن الحاج وغيره ثم الإجماع المنعقد عليه ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية