الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( حلالا إلا من نساء وصيد وكره الطيب واعتمر ، وإلا كثر إن وطئ ) ش هذا حال من لم يصح طواف قدومه أو طواف إفاضته ، والمعنى أن من سعى بعد طواف القدوم ، وكان طوافه غير صحيح ، ولم يعد بعد طواف السعي الإفاضة حتى رجع إلى بلده أو طاف للإفاضة ، وكان طوافه غير صحيح ، ولم يتطوع بعده ، فإن كل واحد منهما يرجع من بلده حلالا من ممنوعات الإحرام كلها إلا من النساء والصيد ، فإن ذلك حرام عليه ، أما الطيب فيكره له استعماله ، ولا يحرم ، وذلك ; لأن كل واحد منهما قد حصل له التحلل الأول : برمي جمرة العقبة ، فإذا رجع كل واحد منهما ، فإنه يرجع على بقية إحرامه الأول فلا يجدد إحراما من الميقات إذا مر به ; لأن الإحرام لا يدخل على بقية إحرام الحج ، ولا يلبي في طريقه ; لأن تلبيته قد انقطعت قاله في الطراز ، فإذا وصل كل واحد منهما إلى مكة كمل ما بقي عليه فالذي لم يصح طواف قدومه بقي عليه السعي لكن السعي لا يصح إلا بتقدم طواف فيطوف أولا ثم يسعى فيتم تحلله من الحج قاله في الطراز .

                                                                                                                            ( قلت : ) وينوي بطوافه الذي يأتي به قبل السعي طواف الإفاضة ; لأن طواف القدوم فات محله بالوقوف بعرفة ولزمه إعادة السعي بعد طواف الإفاضة ، فإن لم يعد السعي بعد طواف الإفاضة بطل طواف الإفاضة قاله أبو إسحاق التونسي وصار كمن فرق بين طواف الإفاضة والسعي فيعيد طواف الإفاضة ويسعى بعده ، وهذا ظاهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            والذي لم يصح طواف إفاضته يطوف الإفاضة فقط ، ولا يحلق واحد منهما ; لأنه قد حلق بمنى ، فإذا كمل كل واحد منهما إحرامه فذكر المصنف أنه يأتي بعمرة ، وأن جل الناس يقولون : لا عمرة عليه إلا أن يطأ ( تنبيهات الأول : ) هذا الخلاف الذي ذكره المصنف في العمرة لم يذكره في المدونة إلا فيمن أصاب النساء قال في كتاب الحج الأول : والمفرد بالحج إذا طاف الطواف الواجب أول ما دخل مكة وسعى بين الصفا والمروة على غير وضوء ثم خرج إلى عرفات فوقف المواقف ثم رجع إلى مكة يوم النحر فطاف طواف الإفاضة على غير وضوء ، ولم يسع حتى رجع إلى بلده فأصاب النساء والصيد والطيب ولبس الثياب فليرجع لابسا للثياب حلالا إلا من النساء والصيد والطيب حتى يطوف ويسعى ثم يعتمر ويهدي ، وليس عليه أن يحلق إذا رجع بعد فراغه من السعي ; لأنه قد حلق بمنى ، ولا شيء عليه في لبس الثياب ; لأنه لما رمى الجمرة حل له لبس الثياب ، ولا شيء عليه في الطيب ; لأنه بعد رمي جمرة العقبة فهو خفيف ، وعليه لكل صيد أصابه الجزاء ، ولا دم عليه لتأخير الطواف الذي طافه حين دخل مكة على غير وضوء ، وأرجو أن يكون خفيفا ; لأنه لم يتعمد ذلك ، وهو كالمراهق [ ص: 90 ] والعمرة مع الهدي تجزئه من ذلك كله وجل الناس يقولون لا عمرة عليه انتهى .

                                                                                                                            فلم يذكر العمرة إلا مع إصابة النساء ، وإن لم يصب فلا عمرة عليه صرح بذلك في الموازية ، ونقله ابن يونس وعبد الحق في نكته وتهذيبه قال ابن يونس : قال ابن المواز : وإذا لم يطأ فليرجع فيفعل ما وصفنا ويهدي هديا واحدا ، ولا عمرة عليه ، ولو ذكر ذلك بمكة بعد أن فرغ من حجه فليعد طوافه وسعيه ، ولا دم عليه انتهى .

                                                                                                                            وقال في النكت : قال ابن المواز في الذي طاف على غير وضوء لو أنه ذكر ذلك ، ولم يطأ فعل ما ذكره ، ولا عمرة عليه ، وعليه الهدي ، ولو ذكر ذلك ، وهو بمكة بعد أن فرغ من حجه فليعد طوافه وسعيه ، ولا دم عليه انتهى .

                                                                                                                            ونحوه في تهذيبه ، ونقله الشيخ أبو الحسن ، وقال صاحب الطراز : فإن لم يقرب النساء فلا عمرة عليه ونحوه للشيخ أبي إسحاق التونسي ، ولم أر من ذكر العمرة مع عدم إصابة النساء إلا ابن الحاجب وقبله ابن عبد السلام والمصنف وابن فرحون غير أنه قال في التوضيح والظاهر : قول جل الناس ; لأن العمرة إنما كانت عليه لأجل الخلل الواقع في الطواف بتقدم الوطء عليه فأمر أن يأتي بطواف صحيح لا وطء قبله ، وهو حاصل في العمرة بخلاف ما إذا لم يطأ ، وما قاله صحيح ، ولا وجه للعمرة إذا لم يحصل وطء ، ويفهم من كلامه في التوضيح أن جل الناس يقولون : تجب العمرة إذا وطئ ، والذي نقله في المدونة وشروحها ، ونقله ابن الحاجب عن جل الناس أنه لا عمرة عليه ، وإن أصاب النساء ، وكلام ابن الحاجب يفهم منه أن في المسألة ثلاثة أقوال ، فإنه قال ثم يعتمر ويهدي ، وقيل : لا عمرة عليه إلا أن يطأ وجل الناس لا عمرة عليه انتهى .

                                                                                                                            والذي يفهم من كلام المصنف في التوضيح أنه إنما ذكر قولين ، فإنه قال : يختلف في طلب العمرة على الجملة ، وإنما اختلف ، هل يؤمر بها على الإطلاق أو بشرط أن يطأ انتهى .

                                                                                                                            والعجب من ابن عرفة - رحمه الله - في عدم اعتراضه على ابن الحاجب مع كثرة تنبيهه على ما خالف فيه نقل المذهب فتأمله منصفا ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني : ) هذا الكلام الذي تقدم إنما ذكره في المدونة وشروحها في مسألة من طاف للقدوم على غير وضوء وسعى بعده ، ولم يعد السعي بعد طواف الإفاضة ، ولم يذكروه في مسألة من طاف للإفاضة على غير وضوء إذا لم يتطوع بعده ، وقد سوى ابن الحاجب بين المسألتين فاعترض عليه ابن عبد السلام بأنه لم يحسن سياق المسألتين ، وأنه خلط إحداهما بالأخرى ، وأجاب المصنف عنه في التوضيح بأنه لم ينقل قوله : ويرجع حلالا عن المدونة ، والظاهر : أنه لا فرق بين ما إذا طاف للإفاضة لغير وضوء أو طاف للقدوم بغير وضوء ثم سعى بعده انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وهو كذلك ; لأنه قد بقي عليه التحلل الثاني في الصورتين ( الثالث : ) قال أبو الحسن في شرح قوله : وجل الناس يقولون لا عمرة عليه هم سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وعطاء ، وقيل : يطوف ويتم حجه ويقضي قابلا ، وهو قول ابن عمر وابن شهاب انتهى .

                                                                                                                            وقال أبو إسحاق : والأشبه ما قال جل الناس أنه لا عمرة عليه ، وإنما روى مالك ذلك عن ربيعة وحكى عن ابن عباس ولابن عباس خلافه أنه ينحر بدنة ، وقال ابن المسيب والقاسم وعطاء : ليس عليه إلا نحر بدنة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف فيمن وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل الطواف والسعي فالمشهور من مذهب مالك أن عليه العمرة قال في الطراز في باب جمرة العقبة : وهو مروي في الموازية عن ابن عباس وربيعة قال ، وروى ابن الجهم عن أبي مصعب عن مالك أن حجه يفسد قال القاضي أبو محمد : وهو أقيس ، وهو مروي في الموازية عن ابن عمر والحسن وابن شهاب ، وقال أبو حنيفة : إنما عليه الهدي ، وهو في الموازية عن ابن المسيب والقاسم وسالم وعطاء وعن ابن عباس أيضا انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) وبهذا يظهر لك أنه لا وجه للقول بلزوم العمرة مع عدم الوطء وعلم من هذا أن المراد بقوله في المدونة [ ص: 91 ] جل الناس ، وقول المصنف : الأكثر جل العلماء خارج المذهب ، والله أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع : ) لم يذكر المصنف حكم الهدي ، وقد تقدم في الموازية أنه إذا أصاب النساء وجب الهدي مع العمرة ، وهو ظاهر ; لأن من وطئ قبل التحلل الثاني وجب عليه الهدي ، كما سيأتي في فصل ممنوعات الإحرام ، فإن أخر طوافه وسعيه إلى المحرم فهل عليه هدي واحد أو هديان قال في الطراز : يختلف فيه ففي الموازية قال أشهب يهدي هديين في عمرته هديا للوطء ، وهديا للتفرقة وابن القاسم يرى في ذلك هديا ، والأول : أقيس ; لأنهما هديان وجبا بسببين : أحدهما : الوقت فيجب إيقاع أركان الحج في أشهره ، فإن أخر شيئا عن زمانه وجب عليه الجبر لخلل ما ترك ، والجبر في الحج إنما هو الدم ، ورأى ابن القاسم أن ذلك يرجع لصفة من صفات السعي والطواف ، فكان خفيفا كترك الهرولة وشبه ذلك بالعمرة ، والدم يفي بذلك كله انتهى .

                                                                                                                            أما إذا لم يصب النساء فقد تقدم عن الموازية أن عليه الهدي إلا أن يذكر ذلك ، وهو بمكة بعد فراغه من حجه يريد قبل دخول المحرم ، وهو ظاهر ، وقال في الطراز : لو لم يكن عليه فساد يعني للوطء ، هل يستحب له الهدي ، ويختلف فيه ففي الموازية لمالك : من جهل فلم يسع حتى رجع إلى بلده فليرجع متى ما ذكر على ما بقي من إحرامه حتى يطوف ويسعى ، وقال في رواية ابن وهب : وأحب إلي أن يهدي بخلاف رواية ابن القاسم والأحسن فيه أن يراعي الوقت ، فإن رجع قبل خروج أشهر الحج فهو خفيف ، كما لو أخر الطواف والسعي إلى ذلك ، وإن خرج الوقت فعليه الدم لفوات الوقت انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) والذي قاله ظاهر ، وهو الذي يفهم من كلام ابن المواز الذي نقله ابن يونس وعبد الحق فيعتمد عليه ، ما ذكره صاحب الطراز عن الموازية يحمل على ما إذا لم يطل الزمن ، ولم يدخل المحرم ، وإلا فهو بعيد ( الخامس : ) قال الشارح في الكبير قوله : واعتمر يعني إذا رجع حلالا فلا بد من دخوله مكة بعمرة ، وقد تقدم ذلك في كلامه في المدونة انتهى .

                                                                                                                            وقال في الوسط والصغير أي : إذا رجع مكة فلا يدخلها إلا بعمرة ، وقاله في المدونة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) ليس هذا الذي ذكره الشارح معنى كلام المصنف ، ولا معنى كلامه في المدونة ، كما تقدم بيانه بل هو في نفسه متناقض فتأمله ( السادس : ) قوله في المدونة : والمفرد بالحج إلخ لا مفهوم له ، وحكم القارن كذلك ، وهو ظاهر ، والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية