الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وإن اشتبه طهور بمتنجس ، أو نجس صلى بعدد النجس وزيادة إناء )

                                                                                                                            ش : هذه مسألة اشتباه الأواني والخلاف فيها شهير كثير والأواني جمع آنية وآنية جمع إناء وذكر المصنف صورتين : الأولى : إن اشتبه الطهور بالمتنجس وذلك على أوجه فإما أن يكون أحد الأواني وقعت فيه نجاسة كثيرة تغيره ولم يعلم تغير الماء الذي في الأواني جميعها بقراره ، أو بما يتولد منه ، أو تكون الأواني متغيرة تغيرا واحدا بعضها بشيء طاهر لم يسلبه التطهير وبعضها بشيء نجس كان متغيرا ، أحدهما بتراب طاهر طرح فيه والآخر بتراب نجس طرح فيه ، أو يكون الماء يسيرا حلته نجاسة لم تغيره على القول بنجاسته .

                                                                                                                            والصورة الثانية : أن يشتبه الطهور بالنجس كما إذا اشتبه الماء بالبول المقطوع الرائحة الموافق لصفة الماء وإنما بينا تعدد وجوه هذه المسألة ; لأن ابن عبد السلام قال لم يتعرض ابن الحاجب لكيفية تصوير المسألة وهو الأصل إذ لا يلزم العالم أن يبين صورة مسألة في جزئية إلا بحسب التبرع وتقريب البيان لكن مسألة الأواني ينبغي أن لا تهمل من فرضها في جزئية ، أو أكثر إن أمكن لاعتقاد بعضهم صحة فرضها على المشهور وإنما يصح فرضها على مذهب من يرى أن الماء اليسير إذا حلته نجاسة يسيرة ولم تغيره أنه يكون نجسا ا هـ .

                                                                                                                            واعلم أن الخلاف منصوص في الصورة الأولى . وأما الثانية فخرجها القاضي عبد الوهاب على الأولى ورأى أنه لا فرق بينهما ، وقال [ ص: 171 ] ابن العربي : هو الذي تقتضيه أصولنا وبه أقول ، وقال ابن عرفة ابن العربي الطرطوشي عن المذهب اشتباه إناء بول كمتنجس وذكر المصنف أن الحكم في الصورتين أنه يتوضأ ويصلي بعدد النجس وزيادة إناء يعني أنه يتوضأ من أحدهما ثم يصلي ثم يتوضأ من آخر ويصلي يفعل ذلك بعدد النجس وزيادة واحد فإذا كانت الأواني خمسة والنجس منها اثنان فيتوضأ من ثلاثة منها ويصلي بكل وضوء صلاة ، وإن كان النجس ثلاثة توضأ من أربعة منها وصلى بكل وضوء صلاة ، وإن كان النجس أربعة توضأ منها جميعها وصلى ، كذلك قال في التوضيح وهذا هو القول الصحيح .

                                                                                                                            ( وحاصل ) ما ذكروه من الخلاف في هذه المسألة خمسة أقوال فيما علمت : الأول ما ذكره المصنف وهو الصحيح وعزاه ابن عرفة لسحنون في أحد قوليه وابن الماجشون .

                                                                                                                            ( الثاني ) كالأول بزيادة ويغسل ما أصابه من الماء الأول بالماء الثاني ثم يتوضأ منه وهو قول ابن مسلمة قال في الجواهر قال الأصحاب وهو الأشبه بقول مالك واختاره القاضي أبو محمد زاد في التوضيح في نقله لهذا القول فإن لم يغسل فلا شيء عليه ; لأن النجاسة غير محققة .

                                                                                                                            ( الثالث ) يتحرى أحدهما ويتوضأ به ويصلي وتحريه كما يتحرى في القبلة وهو قول لمحمد بن المواز وابن سحنون قال في التوضيح قال ابن العربي وهو الصحيح .

                                                                                                                            الرابع كقول ابن مسلمة إن قلت الأواني وكقول ابن المواز وابن سحنون إن كثرت وهو قول القاضي أبي الحسن بن القصار .

                                                                                                                            ( الخامس ) يترك الجميع ويتيمم وهو قول سحنون الثاني ، وظاهر كلامهم أنه لا يحتاج إلى أن يريقها قبل تيممه قال صاحب الجمع ظاهر كلام الشافعية أنه يريقها ويتيمم لتحقق عدم الماء وسحنون جعل وجودها كالعدم .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) قال ابن عرفة عزو الباجي ، ومن تبعه : التفصيل المذكور في القول الرابع لابن القصار يقتضي أن ابن مسلمة أطلق القول بأنه يتوضأ بعدد النجس وزيادة إناء ويغسل أعضاءه مما سبق ونقله عنه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد مقيدا ، فقال إلا أن تكثر المياه فلا يغتسل ثلاثين مرة ا هـ . ولعل له قولين .

                                                                                                                            ( الثاني ) ذكر ابن شاس وابن الحاجب القول الأول الذي مشى عليه المصنف بلفظ قال سحنون وابن الماجشون يتوضأ ويصلي حتى يفرغ ففسره ابن عبد السلام بأنه يتطهر بالجميع ثم اعترضه بأنه بقي عليه قول من قال إنه يتوضأ بعدد النجس وزيادة إناء مثل ما قيل : في الثياب وهو الأولى ; لأنه يمكن معه الوصول إلى تعيين الطهارة ، واعترض ابن عرفة على ابن عبد السلام بأن ما قاله وهم بين ; لأنه فسره بظاهر فاسد وقبله مع يسير تقييده إذ لا يقول أحد في أوان ثلاث أحدها نجس : إنه يتوضأ ويصلي بعددها ا هـ . وقد أشار إلى هذا في التوضيح ، فقال لا ينبغي أن يفهم الخلاف على الإطلاق إذ أنه إذا كان معه عشرة أوان فيها واحد نجس فما وجه التيمم ومعه ماء محقق الطهارة وهو قادر على استعماله وما وجه من يقول يستعمل الجميع ونحن نقطع إذا استعمل إناءين تبرأ ذمته وإنما ينبغي أن يكون محل الأقوال إذا لم يتحقق عدم النجس من الطاهر ، أو تعدد النجس واتحد الطاهر ا هـ .

                                                                                                                            ( الثالث ) ظاهر كلام المصنف أنه لا يحتاج إلى غسل ما أصابه من الماء الأول بالماء الذي بعده وهو ظاهر كلام غير واحد كابن شاس وابن الحاجب وابن عرفة وذكر صاحب الجمع عن ابن هارون أنه قال : عندي أن قول ابن مسلمة يغسل أعضاءه مما أصابه من الماء الأول بالماء الذي بعده موافق لقول سحنون وابن الماجشون ويحتمل أن يكون خلافا ، وإنهما يريان غسل الوضوء كافيا في زوال النجاسة مما قبله وهو يرى أن الوضوء لا يصح إلا على أعضاء طاهرة كابن الجلاب ، قال صاحب الجمع : والظاهر من نقل الشيوخ أنهما مخالفان لابن مسلمة وإنما ترك الغسل لعدم تحقق نجاسة ما تطهر به ولأن [ ص: 172 ] الأصل عدم التنجيس ا هـ .

                                                                                                                            ( قلت : ) ما ذكره أخيرا هو الظاهر في توجيه ترك الغسل إلا أن غسل أعضاء الوضوء للوضوء ثانية يجزي عن غسل النجاسة ; لأنا وإن قلنا بذلك فيشكل بمسح الرأس وبما أصاب غير أعضاء الوضوء فإن ابن مسلمة قال يغسل ذلك كله فتأمله وبذلك صرح القرافي ، فقال بعد أن ذكر القولين قول ابن مسلمة ، وقال عبد الملك وابن الماجشون مثله إلا الغسل من الإناء الثاني لعدم تيقن النجاسة ، ومن هنا يعلم أن العبارة التي ذكرناها لما حكينا قول ابن مسلمة وهي عبارة النوادر أولى من قول ابن الحاجب ويغسل أعضاءه مما قبله لإيهامها أن الغسل مقصور على أعضاء وضوئه وليس كذلك ، وقد أشار إلى ذلك ابن فرحون ، والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ( الرابع ) قوله بمتنجس ، أو نجس احترز به مما لو اشتبه طهور بطاهر فإنه يستعملها ويصلي صلاة واحدة قاله في التوضيح .

                                                                                                                            ( الخامس ) قول المصنف بعدد النجس هو حيث يعلم عدد النجس وعدد الطاهر فإن لم يعلم ذلك فإنه يتوضأ ويصلي بعدد الجميع أي يصلي بكل وضوء صلاة كما تقدم عن التوضيح .

                                                                                                                            ( السادس ) تقدم أن أحد أوجه الصورة الأولى أن يكون الماء يسيرا حلته نجاسة لم تغيره على القول بنجاسته وهو خلاف المشهور ، وكذلك على القول بأنه مشكوك فيه . وأما على المشهور فحكمه ما قاله ابن الجلاب أنه يتوضأ بأيهما شاء إلا أنه يستحب له أن يتوضأ بأحدهما ويصلي ثم يتوضأ بالثاني ويصلي قاله في التوضيح .

                                                                                                                            ( السابع ) قال ابن شاس : من شرط الاجتهاد أن يعجز عن الوصول إلى اليقين فإن كان معه ما تيقن طهارته ، أو كان على شط نهر امتنع الاجتهاد ا هـ . فظاهره أنه إذا وجد ماء طاهرا محقق الطهارة إنما يمتنع التحري ، ولا يمتنع التوضي بعدد النجس وهو خلاف ما قاله ابن عرفة فإنه إنما فرض المسألة عند فقد الماء الطهور ونصه إن اشتبه طهور على فاقده بنجس ففي تيممه وتعدد وضوئه وصلاته بعدده وواحد إلى آخره ، وفي كلام ابن عبد السلام إشارة إلى ذلك فإنه لما ذكر كلام ابن شاس قال بعد قوله امتنع الاجتهاد يعني التحري ; لأنه إنما يحصل الظن كما تقدم . وأما التوضؤ بالجميع ، أو بعدد النجس فقد يقال إن التطهير بمتحقق الطهارة يتعين ; لأن إعادة الصلاة على خلاف الأصل وخلاف ما روي فترك ذلك متعين ا هـ .

                                                                                                                            وقد فهم صاحب الذخيرة كلام الجواهر على هذا فقال : وفي الجواهر إن وجد ماء تيقن طهوريته لم يجتهد ، وإن لم يجد فللأصحاب أربعة أقوال وذكرها فجعل الخلاف إنما هو مع عدم الوجود وهذا هو الظاهر فإنه لا ضرورة تدعو إلى استعمال ماء مشكوك في نجاسته في أعضائه وثيابه .

                                                                                                                            ( الثامن ) إذا أخبره عدل بنجاسة أحدهما عمل عليه إن بين وجه النجاسة ، أو كان مذهبه كمذهبه وإلا فلا ، نقله ابن فرحون وهو جار على ما تقدم ، ولو أخبر بطهارة أحدها نقل عن ابن هارون أنه قال لا نص والظاهر عندي أنه يستعمله قال صاحب الجمع : ويحتمل أن يقال يجري على ما قالوا في النجاسة فلا يقبله إلا بأحد الشرطين ويحتمل أن يقال الأصل الطهارة وانضاف إلى ذلك خبر العدل فيستعمله .

                                                                                                                            ( قلت : ) وهذا هو الظاهر إلا أن يظهر في الماء ما يقتضي نجاسته ، أو عدم طهوريته كما تقدم عند قول المصنف وقبل خبر الواحد .

                                                                                                                            ( التاسع ) الأعمى كالبصير على المشهور وعلى غيره من الأقوال إلا على القول بالاجتهاد فاختلف فيه هل هو كالبصير ، أو لا ، قولان ذكرهما في الذخيرة بناء على أنه يتأتى منه الاجتهاد .

                                                                                                                            ( العاشر ) إذا أهريقت الأواني ولم يبق منها غير واحد قال ابن عرفة عن المازري لا نص ويتيمم على قول سحنون ويجمع بينه وبين التيمم على قول ابن الماجشون وعلى قول ابن مسلمة زاد عنه صاحب الجمع ويجري الخلاف في البداءة به على الخلاف في الماء المشكوك وعلى القول بالتحري يعمل على ما غلب على ظنه فإن غلب [ ص: 173 ] على ظنه نجاسته تركه ، أو جمع بينه وبين التيمم ، وقال ابن عرفة وعلى القول بالتحري في تحديد قول المازري ونقله ابن شاس .

                                                                                                                            ( الحادي عشر ) قال ابن عبد السلام الاشتباه الالتباس وعلى القول بالتحري فلا بد هناك من أمارة ، أو دليل فليس الالتباس بحقيقي ; لأنه إنما يكون عند تعارض الأمارات .

                                                                                                                            ( قلت : ) ولذلك قال ابن شاس عن ابن المواز وابن سحنون القائلين بالتحري ، ولا يجوز له أخذ أحد الأواني إلا بالاجتهاد وطلب علامة تغلب على الظن الطهارة ا هـ . فإن لم تظهر له علامة فالظاهر على مذهبهما أنه يترك الجميع ويتيمم ونقل ذلك صاحب الجمع عن الغزالي متمما به هذا القول ، وقول ابن القصار والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ( الثاني عشر ) على القول بالتحري لو صلى بما غلب على الظن أنه طاهر ثم تغير اجتهاده فإن كان إلى اليقين في اجتهاده الأول غسل ما أصابه منه وأعاد الصلاة وإن تغير إلى الظن فيخرج على القولين في نقض الظن بالظن كالمصلي إلى القبلة باجتهاد ثم يغلب على الظن أنه أخطأ قاله في الجواهر ونقله ابن عرفة عن المازري ، فقال المازري : على التحري ، إن تغير اجتهاده بعلم أعاد الصلاة وبظن قولان كنقض ظن الحاكم بظنه ، وقال في الشامل : وإن تغير اجتهاده بعلم عمل عليه لا بظن على الأظهر .

                                                                                                                            ( الثالث عشر ) في توجيه الأقوال قال ابن فرحون هذه الأقوال ليس لها مأخذ من نص يمسها أو يقاربها وإنما استدلوا بعمومات بعيدة ، مثل ما استدل أصحاب التحري بقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ، وأصحاب التيمم بقوله عليه الصلاة والسلام { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } ا هـ . وقد وجهه أهل المذهب بوجوه نذكر بعضها على سبيل الاختصار .

                                                                                                                            أما القول الأول الذي مشى عليه المؤلف فلأن الشخص معه ماء محقق الطهارة قادر على استعماله فلا يجوز له التيمم ، ولا سبيل إلى تيقن استعمال الطاهر إلا بذلك ولم تغسل الأعضاء لعدم تحقق نجاستها .

                                                                                                                            وهو وجه الثاني إلا أنه رأى الغسل أقرب إلى الاحتياط للطهارة لتيقن إزالة النجاسة قبل الوضوء الثاني .

                                                                                                                            ووجه الثالث القياس على القبلة ; لأن كلا منهما شرط للصلاة .

                                                                                                                            ووجه الرابع أن الغالب مع الكثرة إصابة الاجتهاد بخلاف القلة ولأنه مع الكثرة يشق استعمالها . وأما مع القلة فيخف أمرها .

                                                                                                                            ووجه الخامس أن الله - تعالى - أباح التيمم عند عدم الماء الطهور وهو هنا عادم له لوقوع الشك ، وإلزام وضوءين وصلاتين خلاف الأصل والتحري لا يسقط الفرض بيقين .

                                                                                                                            ( الرابع عشر ) الفرق بين الأواني والثياب على ما مشى عليه المصنف فيهما خفة أمر النجاسة بدليل الاختلاف في إزالتها ، ولا كذلك الماء فإنه لم يختلف في اشتراط المطلق في رفع الحدث قاله في التوضيح ، قال : وبهذا يندفع ما قاله ابن عبد السلام هنا فانظره . يشير إلى قوله في شرح قول ابن الحاجب ويتحرى في الثياب إن كان القائل هنا بالتحري يقول في الأواني به فحسن وإلا فمشكل إذ لا فرق بينهما .

                                                                                                                            ( الخامس عشر ) على القول الذي مشى عليه المصنف ومن وافقه من أنه يصلي بعدد النجس وزيادة واحد قال ابن فرحون قال ابن راشد فيه نظر ; لأن النية تكون حينئذ غير جازمة لعلمه أنه لا يكتفي بما صلى ولأن الثانية إن نوى بها الفرض كان ذلك رفضا للأولى ، وإن نوى بها النفل لم يسقط عنه ، وإن نوى التفويض لم يصح ; لأنه لا يقبل الله صلاة بغير نية جازمة .

                                                                                                                            وأجيب بأن قوله لعلمه أنه لا يكتفي بما صلى لا يرد ; لأن الواجب عليه أن يتوضأ ويصلي بعدد النجس وزيادة واحد فلا يكتفي بدون الواجب عليه فنيته جازمة في الجميع ; لأن ذلك فرضه وهو لازم فيمن نسي صلاة من خمس لا يدري عينها وهذا وهم وقع فيه كثير من الناس وبهذا يسقط قوله : لأن الثانية إن نوى بها الفرض كان ذلك رفضا للأولى ; لأن كل واحدة من المجموع فرضه ، وبه يسقط أيضا ما ذكره من التفويض ا هـ .

                                                                                                                            والجواب الذي ذكره [ ص: 174 ] صاحب الجمع به يجاب عن كلام ابن رشد المذكور في مسألة الشك في الثياب .

                                                                                                                            ( السادس عشر ) إذا اشتبهت الأواني على رجلين فأكثر فعلى القول الذي عليه المصنف وما أشبهه من الأقوال لا إشكال في ذلك فيتوضئون من الأواني بعدد النجس ويصلون ويجوز أن يؤمهم أحدهم وعلى القول بالتحري فإن اتفق تحريهم على إناء فلا إشكال ، وإن اختلف اجتهادهم فتحرى كل واحد خلاف ما تحراه الآخر قال المازري لم يأتم أحدهم بصاحبه في الصلاة التي تطهر لها بالماء الذي خالفه فيه ، قال : وكذلك لو كثرت الأواني وكثر المجتهدون واختلفوا فكل من ائتم منهم بمن يعتقد أنه تطهر بالماء النجس فلا تصح صلاته انتهى .

                                                                                                                            ونقل صاحب الجمع عن ابن هارون بعد ذكره كلام المازري ما نصه : عدم الائتمام عندي مقيد بأن يكون الطاهر منها واحدا . وأما لو كان الطاهر منها أكثر من واحد لجاز أن يأتم به إذ لا يجزم بخطأ إمامه هذا إن كان مذهبه تصويب المجتهد ، وإن كان ممن يرى الصواب في طريق واحد ففيه نظر انتهى .

                                                                                                                            ( قلت : ) في كلام المازري إيماء إلى أنه إن كثرت الأواني فلا يمتنع الائتمام إلا بمن يعتقد أنه تطهر بالنجس ، وقد بحث صاحب الجمع في هذه المسألة وأطال .

                                                                                                                            ( السابع عشر ) قال ابن عبد السلام : ذكر في الجواهر فرعا مرتبا على قول ابن مسلمة قال لو كان معه إناءان فتوضأ منهما وصلى على ما تقدم ثم حضرت صلاة أخرى فإن كانت طهارته باقية وهو يعلم الإناء الذي توضأ به آخرا صلى صلاة بالطهارة التي هو عليها ثم غسل أعضاءه من الإناء الذي توضأ به أولا وصلى ، وإن لم يكن على طهارة ، أو كان عليها ولم يعلم الإناء الذي توضأ منه آخرا توضأ بالإناءين كما فعل أولا قال ابن عبد السلام يعني - والله أعلم - بعد أن يغسل أعضاءه من الإناء الذي يبتدئ الآن منه الطهارة .

                                                                                                                            ( قلت : ) ما ذكره من عند نفسه نص عليه في النوادر عن ابن مسلمة ونقل عنه أنه إن عرف الآخر وانتقض وضوءه فإنه يتوضأ منه ، ولا يغسل أعضاءه ; لأنه هو ، وقد ذكر ابن عرفة وابن فرحون كلام النوادر وظاهر كلام ابن شاس أن ما ذكره إجراء ، وقد علمت أنه نص عن ابن مسلمة وظاهر كلامه أنه خاص بقول ابن مسلمة وليس كذلك بل يتفرع أيضا على قول ابن الماجشون الذي مشى عليه المصنف ، وقد نقله في النوادر ونص عن سحنون وابن الماجشون وذكر ذلك عن ابن عرفة والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            ثم قال ابن عبد السلام واستشكل بعض أئمة المتأخرين قوله في القسم الأول من هذا الفرع : " غسل أعضاءه من الإناء الثاني ثم يتوضأ به " ورأى أنه لا موجب لابتداء الوضوء مع بقاء الطهارة وإنما ينبغي أن يصلي ثم يغسل أعضاءه خاصة ثم يصلي وروى بعض أشياخي أن هذا الفرع جرى على قول ابن مسلمة ومذهبه صحة رفض الطهارة ، قال : فلعله رفض الطهارة الأولى ، قال : وهذا يحتاج إلى زيادة تحقيق يطول الكلام من أجلها انتهى .

                                                                                                                            ولعل بعض أئمة المتأخرين الذي أشار إليه هو الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فإن صاحب الجمع ذكر أنه اجتمع بابن عبد السلام وذكر له هذا الإشكال فحكى له أن الشيخ تقي الدين أورده على ابن جماعة التونسي حين وصل الديار المصرية وأن ابن جماعة جاوبه بالجواب الذي ذكره ابن عبد السلام ثم بحث في الجواب وأطال . ومما يرد الجواب المذكور أن سحنونا وابن الماجشون ذكراه أيضا وليس مذهبهما الرفض ، وقال ابن عرفة : والجواب لما كان الوضوء الثاني ملزوما لنية رفع الحدث التزم رفض الأول نية وفعلا فتأمله ، وذكر ابن فرحون عن الشيخ تقي الدين : أنه قد يؤول ذلك بأن يكون أحدث بين الوضوءين في أول مرة وليس بظاهر ، والحق ما قاله ابن عرفة والله - تعالى - أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية