الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( ومن ترك فرضا أتى به وبالصلاة وسنة فعلها لما يستقبل )

                                                                                                                            ش يعني أن من ترك فرضا من فرائض الوضوء ناسيا له فإنه يأتي بذلك الفرض الذي نسيه ، وإن كان صلى بذلك الوضوء فإنه يعيد الصلاة أيضا في الوقت وبعده بعد أن يأتي بذلك الذي نسيه ، وقد تقدم بيان ذلك في الموالاة وإنما ذكره المصنف هنا لينبه على حكم من ترك سنة وقوله : أتى به يريد وبما بعده إن ذكر ذلك بالقرب ، وإن ذكر ذلك بعد البعد فإنه يأتي به وحده ، وإنما لم ينبه المصنف على هذا اكتفاء بما ذكره في التنكيس ; لأن حكم المنكس والمنسي عند ابن القاسم سواء وقد تقدم بيان ذلك كله في الكلام على الموالاة أيضا ، وتقدم هناك أيضا حكم ما إذا أخره بعد ذكره عامدا أو ناسيا أو لعدم الماء والله تعالى أعلم . وأما من ترك سنة من سنن الوضوء ناسيا لها فإنه يأتي بها فقط سواء ذكرها بالقرب أو بالبعد وإن كان صلى بذلك لم يعد الصلاة .

                                                                                                                            ( تنبيهات الأول ) هذا حكم من ترك سنة مستقلة لم يفعل في موضعها فعل ، قال ابن بشير : وحقيقة ما يعاد من السنن المتروكة في الوضوء وما لا يعاد أن كل سنة إذا تركت ولم يؤت في محلها بعوض فإنها تعاد ، وهذا كالمضمضة والاستنشاق ومسح داخل الأذنين والترتيب وكل سنة عوضت في محلها كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ومسح الرأس عائدا من المقدم إلى المؤخر فلا تعاد ; لأن محلها قد حصل فيه الغسل والمسح انتهى . ونقله ابن ناجي في شرح المدونة في كتاب الصلاة الأول في شرح قوله : لا يجزئ من الإحرام إلا الله أكبر ولفظه . قال ابن بشير : كل سنة في الوضوء لم يعد موضعها من فعل فإنها إذا تركت لا تعاد كمن ترك غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء ، والاستنثار ورد اليدين في مسح الرأس انتهى . وذكر ابن عرفة كلام ابن بشير وقال بعده قلت يرد بعموم نقل الشيخ عن ابن حبيب إعادة ما ترك من مسنونه وإن سلم في اليدين فلاستحالة تلافيه لتقييده بالقبلية وتلافيها مستحيل أو موجب إعادة الوضوء ، فتصير السنة واجبة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) قد سلم ما قاله ابن بشير إذا كان لا يعيد غسل اليدين فلم يبق إلا رد مسح الرأس والاستنثار وهما أولى بعدم الإعادة ; لأن إعادتهما تستلزم تكرار مسح الرأس بماء جديد أو مسحه من غير بلل في اليد ولا فائدة فيه كما تقدم في كلام اللخمي ، وكذلك الاستنثار لا يتصور فيه الإعادة إلا بإعادة الاستنشاق ، فالصواب تقييد ما نقله الشيخ عن ابن حبيب بما عدا الثلاثة المذكورة فتأمله والله تعالى أعلم . وقال الفاكهاني : قال ابن القصار : من سها عن رد يديه في مسح الرأس فإن ذكر قبل أخذ الماء لرجليه فليعد بيديه على رأسه وإن بل [ ص: 253 ] يديه بالماء بعد مسح رأسه فلا يعيدها ; لأن ذلك تكرار مسح على الوجه المكروه انتهى . وذكره سند في أول كتاب الطهارة على أنه المذهب ، فتحصل من هذا أن السنن التي تفعل إذا تركت المضمضة ، والاستنشاق ، ومسح الأذنين ، وتجديد الماء لهما ، والترتيب .

                                                                                                                            ( الثاني ) إذا ترك السنة ثم تذكرها فإنه يفعلها ولا يعيد ما بعدها كما سيأتي عن الموطإ وظاهر كلام صاحب الطراز أنه متفق عليه مع السهو ، وإنما الخلاف مع العمد ، ونقله في الذخيرة وقبله ، وظاهر كلام ابن ناجي في شرح الرسالة أن الخلاف جار في السهو أيضا وكذلك ظاهر كلام الشيخ يوسف بن عمر ، ونصه في شرح قول الرسالة : وإن ذكر مثل المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فإن كان قريبا فعل ذلك ولم يعد ما بعده ; لأنه سنة ولا يجب الترتيب في ذلك ، هذا هو المشهور وقال ابن حبيب : يعيد ما بعده كما في الفرائض انتهى . وقال ابن راشد في شرح قول ابن الحاجب لما ذكر المضمضة والاستنشاق : ومن تركهما وصلى أمر بإعادتهما ما نصه : وإذا أعادهما فهل يعيد ما بعدهما إن كان بحضرة الماء لأجل الترتيب كما في المفروض أو لا ؟ قولان : الإعادة لابن حبيب ونفيها لمالك في المختصر وهو الصحيح انتهى . ووجه عدم الإعادة ظاهر ; لأن الترتيب بين السنن في أنفسها وبينها وبين الفرائض مستحب ، والزيادة في المغسولات محرم أو مكروه ، وابن حبيب على أصله فإن الترتيب بين الفرائض والسنن عنده سنة لكنه أخف من الترتيب بين الفرائض كما سيأتي بيانه ، وقال في الطراز لما ذكر قول ابن حبيب : ولعمري أنه خلاف ما يعرف في المذهب .

                                                                                                                            ( الثالث ) إنما يؤمر بالإتيان بالسنة إذا كان قصده أن يصلي بذلك الوضوء ، وأما إذا كان قصده أن ينقض ذلك الوضوء لم يؤمر بالإتيان بها . قاله غير واحد وهو ظاهر .

                                                                                                                            ( الرابع ) إذا ترك شيئا من فرائض الوضوء عامدا حتى طال فقد بطل وضوءه ولا يبني عليه ولو بنى عليه لم يجزه وإن صلى به فصلاته باطلة وتقدم أن التفريق عمدا إذا كان يسيرا لا يضر وأنه مكروه أو حرام وتقدم بيان قدره ، وإن ترك سنة من سنن الوضوء عامدا فإنه يفعلها بالقرب ولا إشكال في ذلك كما ذكره صاحب الطراز وغيره ، وظاهر كلامه في الجواهر أنه يفعلها أيضا ولو طال فإنه قال فيمن ترك المضمضة والاستنشاق عامدا : في استحباب إعادته في الوقت قولين . قال : ولا شك أنه يؤمر بإعادة ما ترك انتهى . ونحوه في الزاهي وسيأتي لفظه وهو ظاهر كلام ابن الحاجب وغيره ، قال ابن الحاجب بعد أن ذكر المضمضة والاستنشاق : ومن تركهما وصلى أمر بفعلهما ، وقوله : ويستحب للمتعمد أن يعيد الصلاة في الوقت قال في التوضيح : قوله : بفعلهما أي لما يستقبل ، وقوله : يستحب للمعتمد في هذه المسألة ثلاثة أقوال : الإعادة في الوقت كما ذكر ، ونفيها ، والثالث لغير ابن القاسم في العتبية الإعادة أبدا ، نقله صاحب الطراز فقال : وهذا إما لأنهما عنده واجبتان ، وإما لأن ترك السنن عمدا لعب وعبث ، والذي رأيته في البيان وأما العامد فقال ابن القاسم : يعيد الصلاة في الوقت ، وقال ابن حبيب : لا إعادة ، ويتخرج في المسألة قول ثالث أنه يعيد أبدا بالقياس على من ترك سنة من سنن الصلاة ، فقيل : يستغفر الله ولا شيء عليه ، وقيل : يعيد في الوقت . وعلى قياس هذا يأتي قول ابن القاسم وقيل : يعيد أبدا وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم فيلزم على قياس هذا القول أنه يعيد في هذه الصورة أبدا انتهى . ومفهوم كلام ابن الحاجب أن الناسي لا يستحب له الإعادة ، قال ابن راشد في شرحه واستحسن اللخمي أن يعيد الناسي أيضا في الوقت ، والمعروف أن الإعادة فيهما انتهى . وقال ابن عرفة بعد أن ذكر المضمضة والاستنشاق : ويفعلهما تاركهما .

                                                                                                                            وفي إعادة صلاته في الوقت ثالثها في العمد للخمي ونقله وسماع يحيى بن القاسم وعزا ابن رشد الثاني لابن حبيب وخرج إعادته [ ص: 254 ] أبدا من ترك السنة عمدا ، قال : وهو المشهور المعلوم لابن القاسم ولا يعيد الناسي اتفاقا انتهى . وكلام ابن رشد الذي نقله المصنف في التوضيح وابن عرفة هو في أول سماع يحيى من كتاب الطهارة ، وقال ابن بشير : المضمضة والاستنشاق سنتان فمن تركهما لم يبطل وضوءه ولا صلاته إن كان ناسيا ، فإن تركهما متعمدا فينبغي أن يختلف فيه على الخلاف في تارك السنن عمدا ، ولا خلاف هاهنا أنه يعيد لا الصلاة بعد الوقت ، ويمكن أن يقال : ليس يلزم إذا قيل : في سنة تجب الإعادة بعد الوقت أن يلزم ذلك في كل سنة ; لأن السنن متباينة الرتب في التأكيد انتهى . وقد تقدم .

                                                                                                                            وكلام ابن راشد فيمن نكس وضوءه متعمدا وتصحيحه القول بعدم إعادة من ترك سنة من سنن الوضوء عامدا ، وظاهره أنه لا يعيد لا في الوقت ولا بعده ، فتحصل من هذا أن من ترك المضمضة والاستنشاق ناسيا ثم ذكر بعد أن صلى فلا يعيد صلاته على ما قال في المدونة ، ونصها : ومن ترك المضمضة والاستنشاق ومسح داخل أذنيه في الوضوء والجنابة حتى صلى أجزأته صلاته وأعاد ما ترك لما يستقبل انتهى . ونحوه في الرسالة ، وقال سند : إن المشهور من المذهب أنه لا يستحب له الإعادة في الوقت ونقل عن ابن القاسم أنه تستحب له الإعادة في الوقت وقال ابن رشد أنه لا يعيد اتفاقا وهو ظاهر كلام ابن بشير وغيره ، وقال اللخمي : إنه يعيد في الوقت . وظاهر كلامه أنه اختاره من نفسه وهو ظاهر كلام ابن عرفة المتقدم ، وقد تقدم عن صاحب الطراز أنه نقل عن ابن القاسم وجعله مقابل المشهور وأما بعد الوقت فلا إعادة عليه بلا خلاف أعلمه ، وأما من تركهما عامدا وصلى بذلك الوضوء ففي صلاته ثلاثة أقوال قيل : لا إعادة عليه لا في الوقت ولا بعده ، وفي كلام ابن رشد السابق في الكلام على الترتيب أنه الصحيح وقيل : يعيد في الوقت وهو المنصوص لابن القاسم في سماع يحيى المذكور ، وقال البساطي في المغني : أنه المشهور وقيل : يعيد أبدا وهذا القول نقله صاحب الطراز وضعفه ونقله عنه في التوضيح كما تقدم وجعله ابن رشد مخرجا من القول ببطلان صلاة تارك سنة من سنن الصلاة قال ابن ناجي في شرح الرسالة : قلت يرد تخريجه بأن سنة الصلاة أقوى ; لأنها المقصود والوضوء وسيلة انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وفي كلام ابن بشير وابن راشد إشارة إلى هذا وأما قول ابن رشد وهو المشهور في المذهب المعلوم من قول ابن القاسم فليس راجعا إلى ترك المضمضة والاستنشاق وإنما هو راجع إلى مسألة من ترك سنة من سنن الصلاة وسيأتي في كلام المصنف في باب السهو أنه أحد القولين المشهورين في المسألة والله تعالى أعلم . ويظهر من كلام ابن الحاجب ترجيح القول بالإعادة في الوقت لاقتصاره عليه ولأنه المنصوص لابن القاسم وانظر هل يقال بذلك في بقية سنن الوضوء أو لا إعادة على من تركها لا في الوقت ولا في غيره ؟ أما السنن التي لا يمكن تلافيها كغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء والاستنثار ورد مسح الرأس فلا فائدة للإعادة إذ لا يمكن تلافيها ، وأما الترتيب فقد تقدم في كلام ابن رشد في الكلام على التنكيس أن مذهب المدونة أنه لا يعيد الصلاة ولا الوضوء وظاهره أنه لا إعادة عليه لا في الوقت ولا بعده ، وأما مسح الأذنين وتجديد الماء لهما فيظهر من كلام ابن بشير أن حكمها حكم المضمضة والاستنشاق ، ونصه : وأما داخل الأذنين فلا خلاف أنهما سنة فمن ترك مسحهما لم تبطل صلاته على ما قدمناه في المضمضة والاستنشاق ويعيدهما لما يستقبل ، وأما خارج الأذنين ففيه قولان أحدهما أنه فرض ، والثاني أنه سنة ، والمعول عليه أنهما سنة وإذا قلنا : إنهما فرض فإن تركتا فالمشهور صحة الصلاة ; لأنهما ممسوحتان في الرأس والمسح مبني على التخفيف وليسارتهما ، وقال ابن الجلاب القياس الإعادة ويجدد لهما الماء فإن لم يجدد فلا يعيد كما قدمناه ، وفي المذهب قول أنه يجدد انتهى .

                                                                                                                            وقال في الطراز : إذا قلنا [ ص: 255 ] يجب مسحهما فتركهما سهوا حتى صلى فلا يختلف المذهب أنه تصح صلاته ، واختلف في وجه ذلك فقيل : استحسان لا قياس وقال الأبهري : لما اجتمع فيهما خلافان أحدهما أنهما من الرأس والثاني وجوب مسحهما لم ير مالك الإعادة ، وهذا يرجع إلى الاستحسان ويخرج ذلك على قول ابن مسلمة ; لأن مسح جميع الرأس عنده غير واجب فإن ترك ثلث رأسه عنده أجزأه فكيف بمن ترك مسح أذنيه ؟ فإن ترك ذلك عمدا اختلف القائلون بالوجوب فتعليل الأبهري يقتضي أنه تجزئه صلاته ، وقال أبو جعفر : قال بعض أصحابنا : إن تركهما عمدا أعاد الوضوء ، وحملوا قول مالك على السهو استحسانا انتهى . وذكر اللخمي بعض هذا وصرح في سماع موسى من كتاب الطهارة بأن من نسي مسح أذنيه أو نسي المضمضة والاستنشاق وصلى فلا إعادة عليه ، قال ابن رشد : إنما قال لا إعادة على من نسيهما وهما عنده من الرأس ومسح جميعه واجب عنده مراعاة للخلاف ، وقد تقدم لفظه في الكلام على التجديد والله تعالى أعلم . وقال ابن شعبان : الأذنان من الرأس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجدد لهما ماء ويدخل أصبعيه في صماخيه وليس عليه غسلهما ، فمن مسحهما مع رأسه أو تركهما عمدا أو سهوا لم يعد صلاته ، إلا أنا نأمره بالمسح لما يستقبل ونقصد في العمد كذلك انتهى . والله تعالى أعلم . والذي يظهر من كلامهم أن من ترك السنة لا يؤمر بإعادة الصلاة قال في الذخيرة في أول فصل سنن الوضوء : قال صاحب الطراز : والفرق بين السنة والفضيلة والفريضة أن الأول يؤمر بفعله إذا تركه من غير إعادة الصلاة ، والثاني لا يؤمر بفعلها إذا تركها ولا بالإعادة ، والثالث يعاد لترك الصلاة انتهى . وكلام سند الذي ذكره في أوائل باب ترتيب الوضوء الخامس : قول المصنف ومن ترك فرضا يريد أو شك في ذلك قال في أوائل كتاب الطهارة من المدونة : ومن شك في بعض وضوئه فلم يتيقن أنه غسله فليغسل ما شك فيه انتهى . والحكم فيه حكم من تحقق أنه ترك بعض وضوئه ، وقوله : بعض وضوئه شامل للسنن وهو كذلك كما صرح به الشيخ يوسف بن عمر في شرح قول الرسالة وإن ذكر مثل المضمضة والاستنشاق ومسح الأذنين فقال : وكذلك إذا شك ما لم يكن مستنكحا فإن كان مستنكحا بنى على الخاطر السابق انتهى .

                                                                                                                            ( قلت ) وما ذكره من استثناء المستنكح صحيح وقوله : يبني على أول خاطره هذا على القول الذي مشى عليه ابن الحاجب وأما على المشهور فإنه يطرح الشك ويلهي عنه ، قال في الزاهي : ومن ذكر في الصلاة مسح رأسه فإن كان ذلك يكثر عليه مضى على صلاته ، وإن كان غير مستنكح مسح رأسه ثم صلى انتهى . وقوله : ذكره في الصلاة أي شك وأما لو تحقق أنه تركه وذكر ذلك فإنه يقطع ويمسحه ويبتدئ الصلاة سواء كان مستنكحا أو غير مستنكح والله تعالى أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية