الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

            1157 - أسود بن عامر ، أبو عبد الرحمن المعروف بشاذان .

            أصله من الشام ، وسمع سفيان الثوري ، وشعبة ، والحمادين ، وابن المبارك وغيرهم . روى عنه : أحمد بن حنبل ، ووثقه .

            توفي ببغداد هذه السنة .

            1158 - ثابت بن نصر بن الهيثم ، الخزاعي .

            كان يتولى إمارة الثغور . ويذكر عنه فضل وصلاح وحسن أثر فيما ولي .

            توفي في هذه السنة بالمصيصة .

            1159 - صالح بن عبد الكريم العابد .

            حدث عن فضيل بن عياض ، وابن عيينة . حدث عنه البرجلاني .

            عن أبي العباس النسائي قال : سمعت بعض الأشياخ يقول : قال لي صالح بن عبد الكريم يوما أيش في كمك يا أبا يوسف ؟ قلت : حديث قال : يا أصحاب الحديث ، ما كان ينبغي أن يكون أحد أزهد منكم ، إنما تقلبون ديوان الموتى ، لعل ليس بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كتابك أحد إلا وقد مات .

            1160 - عبد الله بن بكر بن حبيب ، أبو وهب الباهلي البصري .

            سكن بغداد ، وحدث بها عن حميد الطويل ، وحاتم بن أبي صغيرة ، وسعيد بن أبي عروبة روى عنه أحمد بن حنبل وأبو خيثمة ، والحسن بن عرفة وكان ثقة صدوقا .

            توفي في محرم هذه السنة .

            1161 - عمر بن عبد العزيز ، أبو حفص الشطرنجي .

            كان أبوه من موالي المنصور ، ونشأ أبو حفص في دار المهدي ومع أولاده ، وتأدب ، وكان محبا للشطرنج فلقب به ، ثم انقطع إلى علية وكان يقول لها الأشعار فيما تريده وكان نديما مستحسنا ومؤنسا لطيفا .

            روى محمد بن المرزبان عن أبي العباس الكاتب قال : كان الرشيد يحب ماردة جاريته ، وكان قد خلفها بالرقة ، فلما قدم بغداد اشتاقها فكتب إليها :


            سلام على النازح المغترب تحية صب به مكتئب     سأستر والستر من شيمتي
            هوى من أحب بمن لا أحب

            فلما ورد الكتاب أمرت أبا حفص الشطرنجي بإجابته عنها فأجاب :


            أتاني كتابك يا سيدي     وفيه العجائب كل العجب
            أتزعم أنك لي عاشق     وأنك بي مستهام وصب
            فلو كان هذا كذا لم تكن     لتتركني نهزة للكرب
            وأنت ببغداد ترعى بها     نبات اللذاذة مع من تحب
            فيا من جفاني ولم أجفه     ويا من شجاني بما في الكتب
            كتابك قد زادني صبوة     وأشعر قلبي بحر اللهب
            فهبني نعم قد كتمت الهوى     فكيف بكتمان دمع سرب
            ولولا اتقاؤك يا سيدي     لوافتك بي الناجيات النحب

            فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادما على البريد حتى حدروها إلى بغداد في الفرات .

            وروينا أن الرشيد غضب على علية ، فأمرت أبا حفص الشطرنجي أن يقول شعرا يعتذر فيه عنها فقال :


            لو كان يمنع حسن العقل صاحبه     من أن يكون له ذنب إلى أحد
            كانت علية أيدي الناس كلهم     من أن تكافى بسوء آخر الأبد
            ما لي إذا غبت لم أذكر بواحدة     وإن سقمت وطال السقم لم أعد
            ما أعجب الشيء أرجوه فأكرمه     قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي

            فغنى بها الرشيد فأحضرها وقبل رأسها وقال : لا أغضب عليك أبدا .

            وقال عبد الله بن الفضل بن الربيع : دخلت على أبي حفص الشطرنجي أعوده في علته التي مات فيها ، فأنشدني لنفسه :


            نعى لك ظل الشباب المشيب     ونادتك باسم سواك الخطوب
            فكن مستعدا لداعي الفنا     فإن الذي هو آت قريب
            ألسنا نرى شهوات النفوس     تفنى وتبقى علينا الذنوب
            وقبلك داوى المريض الطبيب     فعاش المريض ومات الطبيب
            يخاف على نفسه من يتوب     فكيف ترى حال من لا يتوب

            1162 - الفضل بن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة ، واسم أبي فروة : كيسان ، وكنية الفضل: أبو العباس : وكان حاجب الرشيد والأمين . وكان أبو العباس أبوه حاجب المنصور والمهدي . وأسند الحديث عن حميد الطويل ، ولما أفضت الخلافة إلى الأمين قدم الفضل عليه من خراسان بالأموال والقضيب والخاتم ، وكان في صحبة الرشيد إلى أن مات الرشيد بطوس ، فأكرمه الأمين وقربه وألقى إليه أن دبر الأمور ، وعول عليه في المهمات ، وفوض إليه ما وراء بابه ، فكان هو الذي يولي ويعزل وتخلى الأمين مستريحا ، واحتجب عن الناس فقال أبو نواس :


            لعمرك ما غاب الأمين محمد     عن الأمر يعنيه إذا شهد الفضل
            ولولا مواريث الخلافة أنها     له دونه ما كان بينهما فضل
            وإن كانت الأخبار فيها تباين     فقولهما قول وفعلهما فعل
            أرى الفضل للدنيا وللدين جامعا     كما السهم فيه الفوق والريش والنصل

            فلما خلع الأمين ، وجاء المأمون إلى بغداد لمحاربته هرب الفضل بن الربيع ، فلما قتل الأمين نفى الفضل وطاهر بن الحسين ببغداد فثنى عنانه معه وقال : إن هذا العنان ما ثني إلا لخليفة ، فقال له طاهر : صدقت ، فسل ما شئت فقال : تكلم لي أمير المؤمنين فكلمه ، فصفح عنه .

            وله في هربه قصة طريفة .

            عن ابن طالوت كاتب ابن وهب قال : سمعت الفضل بن الربيع يقول : لما استترت عن المأمون أخفيت نفسي عن عيالي وولدي ، وكنت أستقل وحدي ، فلما قرب المأمون من بغداد زاد حذري وخوفي على نفسي فشددت في الاحتياط والتواري وأفضيت إلى منزل بزاز كنت أعرفه بباب الطاق ، وشدد المأمون في طلبي ، فلم يعرف لي خبرا ، فتذكرني يوما واغتاظ وجد بإسحاق بن إبراهيم في طلبي وأغلظ له ، فخرج إسحاق من حضرته ، فجد بأصحاب الشرط حتى أوقع ببعضهم المكاره ، ونادى في الجانبين بأن من جاء بي فله عشرة آلاف درهم وأقطاع بثلاثة آلاف دينار كل سنة ، وأن من وجدت عنده بعد النداء ضرب خمسمائة سوط ، وهدمت داره ، وأخذ ماله ، وحبس طول عمره .

            فما شعرت إلا بصاحب الدار قد دخل علي فأخبرني بخبر النداء ، وقال : والله ما أقدر بعد هذا على سترك ولا آمن زوجتي ولا جاريتي ولا غلامي ، تشره نفوسهم إلى المال فيدلون عليك فأهلك بهلاكك ، فإن صفح الخليفة [عنك] لم آمن أن تتهمني [أنت] أني دللت عليك ، فيكون ذلك أقبح ، وليس الرأي لي ولك إلا أن تخرج عني . فورد علي أعظم مورد وقلت : إذا جاء الليل خرجت عنك فقال : ومن يطيق الصبر على هذا إلى الليل ، فإن وجدت عندي قبل الليل فكيف يكون حالي؟ وهذا وقت حار ، وقد طال عهد الناس بك ، فتنكر واخرج فقلت : وكيف أتنكر؟ قال : تأخذ أكثر لحيتك ، وتغطي رأسك ، وتلبس قميصا ضيقا . ففعلت ذلك ، وخرجت في أول أوقات العصر وأنا ميت جزعا ، فمشيت في الشارع حتى بلغت الجسر فوجدته خاليا فتوسطته ، فإذا بفارس من الجند الذين كانوا يتناوبون في داري أيام وزارتي قد قرب مني وعرفني فقال : طلبة أمير المؤمنين والله وعدل إلي ليقبض علي ، فمن حلاوة النفس دفعته ودابته ، فوقع في بعض سفن البحر ، وأسرع الناس لتخليصه وظنوا أنه قد زلق لنفسه فزدت أنا المشي من غير عدو لئلا ينكر حالي ، إلى أن عبرت الجسر .

            ودخلت درب سليمان ، فوجدت امرأة على باب دار مفتوح ، فقلت لها : يا امرأة ، أنا خائف من القتل فأجيريني واحفظي دمي . قالت : ادخل فأومأت إلى غرفة فصعدتها . فلما كان بعد ساعة إذا بالباب قد دق ، فدخل زوجها فتأملته ، فإذا هو صاحبي على الجسر ، وهو مشدود الرأس يتأوه من شجة لحقته ، فسألته المرأة عن خبره ، فأخبرها بالقصة وقال لها : قد زمنت دابتي ، وقد نفذت بها تباع للحم ، وقد فاتني الفتى وجعل يشتمني وهو لا يعلم أني في الدار ، فأقبلت المرأة ترقق به حتى [يهدأ] قالت : أحمد الله الذي حفظك ولم تكن سببا لسفك دمه .

            فلما اختلط الظلام صعدت المرأة إلي فقالت : أظنك صاحب القصة مع هذا الرجل فقلت : نعم فقالت : قد سمعت ما عنده فاتق الله عز وجل في نفسك . واخرج فدعوت لها وخرجت ، فوجدت الحراس قد أغلقوا الدروب . فتحيرت ، ثم رأيت رجلا يفتح بابا بمفتاح رومي . فقلت : هذا غريب [ليس عنده أحد] ، فدنوت منه ، فقلت : استرني سترك الله قال : ادخل فأقمت [عنده] ليلتي ، فخرج من الغد وعاد ومعه حمالان : على رأس أحدهما حصير ، ومخدة ، وجرار ، وكيزان ، وغضائر جدد ، وقدر جديدة ، وعلى الآخر : خبز ، وفاكهة ، ولحم ، وثلج . فدخل فترك ذاك عندي وأغلق الباب ، فنزلت وعذلته وقلت له : لم تكلفت هذا؟ فقال : أنا رجل مزين ، وأخاف أن تستقذرني ، وقد أفردت هذا لك ، فاطبخ وأطعمني في غضارة أجيء بها من عندي ، فأقمت عنده ثلاث ليال ، وقلت له في الرابعة : الضيافة ثلاث ، وقد أحسنت ، وأريد الخروج فقال : لا تفعل ، فإني وحيد ولست ممن يطرق بيته أحد ولا تحذر أن يفشو [لك] خبر من عندي أبدا ، فأقم إلى أن يفرج الله عنك . فأبيت .

            وخرجت فمشيت حتى بلغت باب التين أريد عجوزا من موالينا ، فدققت عليها الباب ، فخرجت فلما رأتني بكت وحمدت الله تعالى على سلامتي ، وأدخلتني الدار ثم بكرت وسعت بي ، فما شعرت إلا بإسحاق بخيله ورجله قد أحاط بالدار ، فأخرجني حتى وقفني بين يدي المأمون حافيا حاسرا ، فلما بصرني المأمون سجد طويلا ثم رفع رأسه . فقال : يا فضل ، تدري لم سجدت؟ فقلت : شكرا لله إذ أظفرك الله بعدو دولتك والمغري بينك وبين أخيك . فقال : ما أردت هذا ، ولكني سجدت شكرا لله تعالى على أن أظفرني بك وألهمني [من] العفو عنك ، حدثني بخبرك . فشرحته من أوله إلى آخره فأمر بإحضار المرأة مولاتنا ، وكانت في الدار تنتظر الجائزة فقال لها : ما حملك على ما فعلت مع إنعامه وإنعام أهله عليك؟ قالت : رغبت في المال قال : فهل لك من ولد أو زوج أو أخ؟ قالت : لا فأمر بضربها مائتي سوط ، وأن تخلد الحبس ، ثم قال لإسحاق : أحضر الساعة الجندي وامرأته والمزين فأحضروا ، فسأل الجندي عن السبب الذي حمله على فعله ، فقال : الرغبة في المال .

            فقال : أنت أولى أن تكون حجاما ليس يحسن أن يكون مثلك من أوليائنا وأمر بأن يسلموه إلى المربين في الدار ويوكل به من يسومه تعلم الحجامة ، وأمر باستخدام زوجته في قهرمة دور حرمه . وقال : هذه امرأة عاقلة دينة ، وأمر بتسليم دار الجندي وقماشه إلى المزين ، وأن يجعل رزقه له ، ويجعل جنديا مكانه . وأطلقني إلى داري فرجعت آمنا مطمئنا [وفي رواية أخرى : أن المأمون أمر لتلك المرأة التي أمرته أن يخرج مخافة شر زوجها بثلاثين ألف درهم ، فقالت : لست آخذ على فعل فعلته له جزاء إلا منه . وردت المال .

            وتوفي الفضل في ذي القعدة من هذه السنة] .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية