الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون

                                                                                                                                                                                                                                      ضرب الله مثلا أي: ذكر وأورد شيئا يستدل به على تباين الحال بين جنابه عز وجل، وبين ما أشركوا به وعلى تباعدهما بحيث ينادي بفساد ما ارتكبوه نداء جليا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء بدل من مثلا، وتفسير له، والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية، والعجز التام. وبحسبها ضرب نفسه مثلا، ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدان لله سبحانه، وقد أدمج فيه أن الكل عبيد له تعالى، وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الفخامة والجزالة. ومن رزقناه من موصوفة معطوفة على عبدا، أي: رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حالي ضرب المثل، والرزق. منا من جنابنا الكبير المتعالي رزقا حسنا حلالا طيبا، أو مستحسنا عند الناس مرضيا، فهو ينفق منه تفضلا وإحسانا. و "الفاء" لترتيب الإنفاق على الرزق، كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق. وإيثار ما عليه النظم الكريم من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق، واستمراره التجددي. سرا وجهرا أي: حال السر والجهر، أو إنفاق سر، وإنفاق جهر. والمراد: بيان عموم إنفاقه للأوقات، وشمول إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا، والإشارة إلى أصناف نعم الله تعالى الباطنة والظاهرة، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لتوخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته سبحانه وتعالى، وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين، فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك ، فما ظنك بالجماد؟! ومالك الملك خلاق العالمين. هل يستوون جمع الضمير للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معنيان منهما، أي: هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات، مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه، [ ص: 130 ] وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده، ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم، فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه، وهو الأصنام. الحمد لله أي: كله لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحد غيره، وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة، وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق مما ذكر راجع إلى الله سبحانه، كما لوح به قوله تعالى: "رزقناه" بل أكثرهم لا يعلمون ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره، ويعبدونه لأجلها، ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك، وإنما لا يعملون بموجبه عنادا كقوله تعالى: يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية