الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد ، والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وأن أبا الزاني قال : سألت رجلا من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم ، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بل عليها الرجم والجلد ، وقال لأنيس : اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر جلدا ، ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم . وقد وردت قصة ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ، ولو كان الجلد حدا مع الرجم لجلده النبي صلى الله عليه وسلم ولو جلده لنقل كما نقل الرجم ؛ إذ ليس أحدهما بأولى بالنقل من الآخر . وكذلك في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت ولم يذكر جلدا ، ولو كانت جلدت لنقل .

وفي حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : قال عمر : " قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وقد قرأنا : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده " ، فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ، ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره . واحتج من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدمناه وقوله : الثيب بالثيب الجلد والرجم ، وبما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر : أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد ، ثم أخبر أنه قد كان أحصن فأمر به فرجم ، وبما روي : " أن عليا جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " . فأما حديث عبادة فإنا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حد الزانيين الحبس والأذى ناسخا له لا واسطة بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا .

ثم كان رجم ماعز والغامدية وقوله : واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها [ ص: 98 ] بعد حديث عبادة ، فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتا لا يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوجوه . وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحد ؛ لأنه لم يعلم بإحصانه ، ثم لما ثبت إحصانه رجمه ، وكذلك قول أصحابنا . ويحتمل حديث علي في جلده شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه .

واختلف الفقهاء في الذميين هل يحدان إذا زنيا ؟ فقال أصحابنا والشافعي : " يحدان " إلا أنهما لا يرجمان عندنا وعند الشافعي يرجمان إذا كانا محصنين ، وقد بينا ذلك فيما سلف ، وقال مالك : " لا يحد الذميان إذا زنيا " . قال أبو بكر : وظاهر قوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب الحد على الذميين ، ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وقوله صلى الله عليه وسلم : أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ، ولم يفرق بين الذمي والمسلم . وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ، فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم التوراة أو حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان رجمهما بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ما كان من شرائع الأنبياء المتقدمين مبقى إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم فهو شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ما لم ينسخ ، وإن كان رجمهما على أنه حكم مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت ؛ إذ لم يرد ما يوجب نسخه . والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة مبتدأة من النبي صلى الله عليه وسلم لا على تبقية حكم التوراة ، والدليل عليه أن حد الزانيين في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء ، فدل ذلك على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخا .

فإن قيل : فإن النبي رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفت الخبر الذي احتججت به في إثبات حد الزنا على الذميين قيل له : استدلالنا من خبر رجم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح ، وذلك ؛ لأنه لما ثبت أنه رجمهما صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما ، وإنما رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان ، فلما شرط الإحصان فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من أشرك بالله فليس بمحصن صار حدهما الجلد .

فإن قيل : إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين من قبل أنه لم تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه . قيل له : لو لم يكن الحد واجبا عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ، ومع ذلك فدلالته قائمة على ما ذكرنا ؛ لأنه إذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى الله عليه وسلم في الزنا فمن له ذمة وتجري عليه أحكام المسلمين أحرى بذلك . ويدل عليه أنهم لا يختلفون أن الذمي يقطع في السرقة ، فكذلك في الزنا ؛ إذ كان فعلا [ ص: 99 ] لا يقر عليه ، فوجب أن يزجر عنه بالحد كما وجب زجر المسلم به ، وليس هو كالمسلم في شرب الخمر ؛ لأنهم مقرون على التخلية بينهم وبين شربها ، وليسوا مقرين على السرقة ولا على الزنا .

واختلف فيمن أكره على الزنا ، فقال أبو حنيفة : " إن أكرهه غير سلطان حد ، وإن أكرهه سلطان لم يحد " . وقال أبو يوسف ومحمد : " لا يحد في الوجهين جميعا " وهو قول الحسن بن صالح والشافعي . وقال زفر : " إن أكرهه سلطان حد أيضا " . وأما المكرهة فلا تحد في قولهم جميعا . فأما إيجاب الحد عليه في حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال القياس أن يحد سواء أكرهه سلطان أو غيره ، ولكنه ترك القياس في إكراه السلطان " . ويحتمل قوله : " في إكراه السلطان " معنيين :

أحدهما : أن يريد به الخليفة ، فإن كان قد أراد هذا فإنما أسقط الحد ؛ لأنه قد فسق وانعزل عن الخلافة بإكراهه إياه على الزنا فلم يبق هناك من يقيم الحد عليه ، والحد إنما يقيمه السلطان فإذا لم يكن هناك سلطان لم يقم الحد ، كمن زنى في دار الحرب ويحتمل أن يريد به من دون الخليفة ، فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصل إلى درء الحد ، فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه ، فلا تجوز له إقامته إذا ؛ لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له ذلك ويسقط الحد . وأما إذا أكرهه غير سلطان فإن الحد واجب ، وذلك ؛ لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا ، وما وقع عن طوع ورضا فغير مكره عليه ، فلما كانت الحال شاهدة بوجود الرضا منه بالفعل دل ذلك على أنه لم يفعله مكرها ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلف النفس والانتشار والشهوة ينافيهما الخوف والوجل ، فلما وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره ؛ لأنه لو كان مكرها خائفا لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة ، وفي ذلك دليل على أن فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد .

فإن قيل : إن وجود الانتشار لا ينافي ترك الفعل ، فعلمنا حين فعل مع ظهور الإكراه أنه فعله مكرها كشرب الخمر والقذف ونحوه . قيل له : هذا لعمري هكذا ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل ذلك على أنه فعله طائعا ، ألا ترى أن من أكره على الكفر فأقر أنه فعله طائعا كان كافرا مع وجود الإكراه في الظاهر ؟ كذلك الحال الشاهدة بالطوع هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية