الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب بيان معنى الحيض ومقداره

قال أبو بكر : الحيض اسم لمقدار من الدم؛ يتعلق به أحكام ؛ منها تحريم الصلاة؛ والصوم؛ وحظر الجماع؛ وانقضاء العدة؛ واجتناب دخول المسجد؛ ومس المصحف؛ وقراءة القرآن؛ وتصير المرأة به بالغة؛ فإذا تعلق بوجود الدم هذه الأحكام كان له مقدار ما؛ سمي حيضا؛ وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام لم يسم حيضا؛ ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها؛ وبعد أيامها ؛ على هيئة واحدة؛ فيكون ما في أيامها منه حيضا؛ لتعلق هذه الأحكام به مع وجوده؛ وما بعد أيامها ليس بحيض؛ لفقد هذه الأحكام مع وجوده؛ وكذلك نقول في الحامل: إنها لا تحيض؛ وهي قد ترى الدم؛ ولكن ذلك الدم لما لم يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسم حيضا؛ فالمستحاضة قد ترى الدم السائل دهرا؛ ولا يكون حيضا؛ وإن كان كهيئة الدم الذي [ ص: 23 ] يكون مثله حيضا إذا رأته في أيامها؛ فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به؛ إذا كان له مقدار ما؛ والنفاس والحيض - فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة؛ والصوم؛ وجماع الزوج؛ واجتناب ما تجتنبه الحائض - سواء؛ وإنما يختلفان من وجهين؛ أحدهما أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس؛ والثاني: أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة؛ ولا في البلوغ.

وكان أبو الحسن يحد الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم؛ الذي تكون به المرأة بالغة في ابتدائه بها؛ وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت؛ وإنما أراد بذلك عندنا أن تكون بالغة في ابتدائه بها إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك من جهة السن؛ أو الاحتلام؛ أو الإنزال عند الجماع؛ فأما إذا تقدم بلوغها قبل ذلك بما وصفنا ثم رأت دما فهو حيض؛ إذا رأته مقدار مدة الحيض ؛ وإن لم تصر بالغة في ابتدائه بها.

وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض؛ فقال أصحابنا: أقل مدة الحيض ثلاثة أيام؛ وأكثره عشرة؛ وهو قول سفيان الثوري ؛ وهو المشهور عن أصحابنا جميعا؛ وقد روي عن أبي يوسف؛ ومحمد: إذا كان يومين؛ وأكثر اليوم الثالث؛ فهو حيض؛ والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة ؛ وقال مالك : لا وقت لقليل الحيض؛ ولا لكثيره؛ وحكى عبد الرحمن بن مهدي ؛ عن مالك أنه كان يرى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما؛ حدثنا عبد الله بن جعفر بن فارس قال: حدثنا هارون بن سليمان الجزار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي بذلك؛ وقال الشافعي : أقل الحيض يوم وليلة؛ وأكثره خمسة عشر يوما؛ وروى عبد الرحمن بن مهدي ؛ عن حماد بن سلمة ؛ عن علي بن ثابت؛ عن محمد بن زيد؛ عن سعيد بن جبير قال: الحيض إلى ثلاثة عشر؛ فإذا زادت فهي استحاضة؛ وقال عطاء : إذا زادت على خمسة عشر فهي استحاضة؛ وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء : إن أقل الحيض يوم وليلة؛ وأكثره خمسة عشر؛ ثم رجع عنه إلى ما ذكرنا.

ومما يحتج به للقائلين بأن أقله ثلاثة أيام؛ وأكثره عشرة؛ حديث القاسم ؛ عن أبي أمامة ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أقل الحيض ثلاثة أيام؛ وأكثره عشرة"؛ فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد؛ ويدل عليه أيضا حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي؛ وأنس بن مالك ؛ أنهما قالا: "الحيض ثلاثة أيام؛ أربعة أيام؛ إلى عشرة أيام؛ وما زاد فهو استحاضة"؛ ويدل ذلك على ما وصفنا من وجهين؛ أحدهما أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة؛ واستفاض؛ ولم يوجد له منهم مخالف؛ فهو إجماع؛ وحجة على من بعدهم؛ وقد روي ما وصفنا عن هذين الصحابيين؛ من غير خلاف [ ص: 24 ] ظهر من نظرائهما عليهما؛ فثبتت حجته؛ والثاني أن هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله (تعالى)؛ وعبادات محضة؛ طريق إثباتها التوقيف؛ أو الاتفاق؛ مثل أعداد ركعات الصلوات المفروضات؛ وصيام رمضان؛ ومقادير الحدود؛ وفرائض الإبل في الصدقات؛ ومثله مقدار مدة الحيض ؛ والطهر؛ ومنه مقدار المهر الذي هو مشروط في عقد النكاح؛ والقعود قدر التشهد في آخر الصلاة؛ فمتى روي عن صحابي فيما كان هذا وصفه قول في تحديد شيء من ذلك؛ وإثبات مقداره؛ فهو عندنا توقيف؛ إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس؛ فإن قيل: ليس يمتنع أن يكون مقدار الحيض معتبرا بعادات النساء؛ فيجب الرجوع إليها فيه؛ ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش: "تحيضي في علم الله ستا؛ أو سبعا؛ كما تحيض النساء في كل شهر"؛ فردها إلى العادة؛ وأثبتها ستا؛ أو سبعا؛ فجائز على هذا أن يكون قول من قال بالعشرة في أكثره؛ وبالثلاث في أقله؛ إنما صدر عن العادة عنده؛ قيل له: إنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في الأقل الذي لا نقص عنه؛ وفي الأكثر الذي لا يزاد عليه؛ وقد اتفق الجميع على المذكور من العدد؛ وفي قصة حمنة هو ست؛ أو سبع؛ ليس بحد في ذلك؛ وأنه لا اعتبار به في إثبات التحديد؛ فسقط الاحتجاج به في موضع الخلاف؛ وقوله لحمنة: " تحيضي في علم الله ستا؛ أو سبعا؛ كما تحيض النساء في كل شهر"؛ يصلح أن يكون دليلا مبتدأ لصحة قولنا؛ من قبل أن قوله: "كما تحيض النساء في كل شهر"؛ لما كان مستوعبا لجنس النساء اقتضى أن يكون ذلك حكم جميع النساء؛ وذلك ينفي أن يكون حيض امرأة أقل من ذلك؛ فلولا قيام دلالة الإجماع على أن الحيض قد يكون ثلاثا؛ لما جاز لأحد أن يجعل الحيض أقل من ست؛ أو سبع؛ فلما حصل الاتفاق على كون الثلاث حيضا؛ خصصناه من عموم الخبر؛ وبقي حكم ما دون الثلاث منفيا بمقتضى الخبر؛ ويحتج بمثله في أكثر الحيض؛ ويدل على ذلك أيضا ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن"؛ فقيل: ما نقصان دينهن؟ فقال: "تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي"؛ فدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليالي؛ وأقلها ثلاثة أيام؛ وأكثرها عشرة أيام.

ويدل عليه حديث الأعمش ؛ عن حبيب بن أبي ثابت ؛ عن عروة ؛ عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش: "اجتنبي الصلاة أيام محيضك؛ ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة"؛ وروى الحكم عن أبي جعفر أن سودة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أستحاض؛ فأمرها أن تقعد أيام حيضها؛ فإذا مضت توضأت [ ص: 25 ] لكل صلاة؛ وصلت؛ وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة بعدد الأيام التي كنت تحيضين فيها؛ ثم اغتسلي"؛ وفي حديث أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - في المرأة التي سألته أنها تهراق الدم؛ فقال: "لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر؛ فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر؛ ثم لتغتسل؛ ولتصل"؛ وروى شريك؛ عن أبي اليقظان؛ عن عدي بن ثابت ؛ عن أبيه؛ عن جده؛ عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها؛ ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة"؛ وفي بعض ألفاظ هذا الحديث: "تدع الصلاة أيام أقرائها"؛ وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت أبي حبيش؛ والمرأة التي روت قصتها أم سلمة ؛ أن تدع الصلاة أيام حيضها؛ من غير مسألة منه لها عن مقدار حيضها قبل ذلك؛ وجب بذلك أن تكون مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام؛ وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ ولو كان الحيض يكون أقل من ثلاث لما أجابها بذكر الأيام؛ والليالي؛ وقال في حديث عدي بن ثابت : "المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها"؛ وذلك لفظ عام في سائر النساء؛ واسم الأيام؛ إذا أطلقت في عدد محصور؛ يقع أقله على ثلاثة؛ وأكثره على عشرة؛ ولا بد من أن يكون له عدد محصور يضاف إليه الأيام؛ فوجب أن يكون عدده ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ووجه آخر؛ وهو أنه متى تقدمت معرفة الوقت الذي أضيفت إليه الأيام؛ فإن اسم الأيام لا يتناول عددا محصورا؛ نظيره قول القائل: "أيام السنة"؛ فلا تختص بالثلاثة؛ ولا بالعشرة؛ وقوله (تعالى): أياما معدودات ؛ لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة؛ لأنه قال: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ؛ فلما أضافها إلى الوقت الذي قد تقررت معرفته عند المخاطبين لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة.

وقوله: "تدع الصلاة أيام حيضها"؛ و "أيام أقرائها"؛ لم يتقدم عند السامعين عدد أيامها؛ فيكون ذكر الأيام راجعا إليها دون ما تختص به من العدد؛ فوجب أن يكون محمولا على ما يختص به من هذا العدد؛ وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ وإنما كان ذلك كذلك لأن اسم الأيام قد يطلق ويراد به وقت مبهم؛ كما يطلق اسم الليالي على وقت مبهم؛ ولا يراد بها سواد الليل؛ فإذا تقدمت معرفة الوقت المضاف إليه الأيام؛ فذكر الأيام فيه بمعنى الوقت المبهم الذي لا يراد به عدد؛ قال الشاعر:


ليالي تصطاد الرجال بفاحم ... .......................



ولم يرد به سواد الليل؛ دون بياض النهار؛ وقال آخر:

[ ص: 26 ]

وأذكر أيام الحمى ثم أنثني ...     على كبدي من خشية أن تصدعا


وليست عشيات الحمى برواجع ...     إليك ولكن خل عينيك تدمعا


ولم يرد بذكر الأيام بياض النهار؛ ولا بذكر العشيات أواخره؛ وإنما أراد وقتا قد تقررت معرفته عند المخاطب؛ وكقوله (تعالى): فأصبح من النادمين ؛ ولم يرد به أول النهار؛ دون آخره؛ وقال الشاعر:


أصبحت عاذلتي معتلة ...      .......................



ولم يرد به الصباح؛ دون المساء؛ وقال لبيد :


وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ...     وأي نعيم خلته لا يزايل؟



ولم يرد به المساء؛ دون الصباح؛ وإنما أراد وقتا مبهما؛ وهذا أشهر في اللغة من أن يحتاج فيه إلى الإكثار من الشواهد.

فلما انقسم اسم الأيام إلى هذين المعنيين قلنا: فيما تقررت معرفته إذا أضيف إليه الأيام فمعناه الوقت؛ وما كان منه حكما مبتدأ فهو محمول على ما تصح إضافة الأيام إليه؛ فمعناها؛ إذا عين؛ هو ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ ووجه آخر؛ وهو أنه لما كان في مفهوم لسان العرب أن اسم الأيام إذا أضيف إلى عدد لم يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ ولا يفارق هذا العدد اسم الأيام بحال؛ لأنك إذا قلت: "أحد عشر"؛ لم تقل "أياما"؛ وإنما تقول: "أحد عشر يوما"؛ وكذلك إذا أطلقت أيام الشهر؛ فقلت: "ثلاثين"؛ لم يحسن عليه اسم الأيام؛ وقلت: "ثلاثين يوما"؛ فلما كان اسم الأيام؛ مع ذكر العدد المضاف؛ لا يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة؛ علمنا أنها حقيقة فيه؛ محمولة على حقيقته؛ ولا تصرف عنه إلى غيره؛ إلا بدلالة؛ لأنه مجاز من حيث جاز أن ينفى عنه اسم الأيام بحال؛ وهو إذا عين عدده أضيفت الأيام إليه؛ فإن قيل: لما قال: "دعي الصلاة أيام أقرائك"؛ فجعل الأيام؛ وأقلها ثلاثة؛ للأقراء؛ وهي جمع؛ أقله ثلاثة؛ حصل لكل يوم قرء؛ قيل له: المراد بقوله: "أيام أقرائك"؛ حيضة واحدة؛ بدلالة أن من كانت عادتها في الحيض ما بين الثلاثة إلى العشرة مراده ذلك لا محالة؛ ومعلوم أن المراد في مثلهما بقوله: " أقرائك"؛ حيضة واحدة؛ فكذلك من لا عادة لها؛ ويدل على ذلك قوله: "ثم اغتسلي؛ وتوضئي لكل صلاة"؛ ومعلوم أن مراده: عند مضي كل حيضة؛ فعلمنا أن المراد بقوله: "أيام أقرائك": "أيام حيضك".

وأيضا قال في حديث الأعمش - الذي ذكرنا -: "أيام محيضك"؛ وفي غيره: "أيام حيضك"؛ وقال: "فلتدع الصلاة الأيام والليالي التي كانت [ ص: 27 ] تقعد"؛ وقال: "نقصان دينهن: تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي"؛ ولم يذكر الأقراء في هذه الأخبار؛ وإنما ذكر الحيض؛ فوجب بمقتضاها أن يكون الحيض أياما؛ وأن ما لا يقع عليه اسم الأيام ليس بحيض; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قصد إلى بيان حكم جميع النساء في الحيض؛ وقد حدث محمد بن شجاع قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير قال: حدثنا إسرائيل؛ عن عثمان بن سعيد ؛ عن عبد الله بن أبي مليكة؛ عن فاطمة بنت أبي حبيش؛ ذكرت قصتها؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : مري فاطمة فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها؛ ثم تغتسل ؛ فأبان في هذا الحديث عن مراده بذكر الأقراء؛ وأنها حيضة في كل شهر؛ لأنه قال: "فلتمسك كل شهر عدد أيام أقرائها"؛ وقد أخبر في حديث آخر أن عادة النساء في كل شهر حيضة واحدة؛ بقوله لحمنة: "تحيضي في علم الله ستا؛ أو سبعا؛ كما تحيض النساء في كل شهر".

فإن قيل: كيف يجوز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء؛ والحيضة الواحدة إنما هي قرء واحد؛ فينبغي أن تكون الأقراء اسما لجماعة حيض؟ قيل له: لما كان القرء اسما لدم الحيض جاز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء؛ على أنها عبارة عن أجزاء الدم؛ كما يقال: "ثوب أخلاق"؛ يراد به العبارة عن كل قطعة منه؛ وقال الشاعر:


جاء الشتاء وقميصي أخلاق ...     شراذم يضحك منه التواق



فسمى القميص الواحد أخلاقا; لأنه أراد العبارة عن كل قطعة منه؛ كذلك جاز أن تسمى الحيضة الواحدة أقراء؛ عبارة بها عن أجزاء الدم؛ فإن قيل: إن اسم الأيام قد يقع على يومين فيجب أن يجعل أقل الحيض يومين؛ لوقوع الاسم عليها؛ قيل له: إنما يطلق اسم الأيام عليهما مجازا؛ وحقيقتها ثلاثة؛ فما فوقها؛ وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز؛ ودليل آخر؛ وهو أن مدة أقل الحيض؛ وأكثره؛ لما لم يكن لنا سبيل إلى إثبات مقدارها من طريق المقاييس؛ وكان طريقها التوقيف؛ أو الاتفاق على ما تقدم من بيانه في هذا الباب؛ ثم اتفق الجميع على أن الثلاث حيض؛ وكذلك العشر؛ واختلفوا فيما دون الثلاث؛ وفوق العشر؛ أثبتنا ما اتفقوا عليه؛ ولم نثبت ما اختلفوا فيه؛ لعدم ما يوجبه من توقيف؛ أو اتفاق.

فإن قيل: فقد اتفق الجميع على أن المبتدأة تترك الصلاة في أول ما ترى الدم؛ وإن كانت رؤيته يوما وليلة؛ فدل على أن اليوم والليلة حيض؛ ومن ادعى أن ذلك الدم لم يكن حيضا احتاج إلى دلالة; لأنه قد حكم له بحكم الحيض بديا؛ فلا [ ص: 28 ] ينقض هذا الحكم إلا بدلالة توجب نقضه؛ وهذا يوجب أن يكون الحيض يوما وليلة؛ قيل له: وقد اتفقوا على أنها تترك الصلاة إذا رأته وقت صلاة ؛ فينبغي أن يكون ذلك دليلا على أن مدة الحيض وقت صلاة؛ فلما لم يدل أمرنا إياها بترك الصلاة إذا رأت الدم وقت صلاة؛ على أن أقل الحيض وقت صلاة؛ بل كان حكم ذلك الدم مراعى؛ منتظرا به استكمال مدة الحيض على اختلافهم فيها؛ كذلك اليوم والليلة.

فإن قيل: لما قال الله ( تعالى): ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن ؛ فقد أوجب علينا الرجوع إلى قولها؛ حين وعظها بترك الكتمان؛ قيل له: ليس هذا من مسألتنا في شيء؛ وإنما هو كلام في قبول خبرها؛ إذا أخبرت عما خلق الله (تعالى) في رحمها؛ ونحن نجعل القول قولها في ذلك؛ وأما الحكم بأن ذلك الدم حيض؛ أو ليس بحيض فليس ذلك إليها; لأن ذلك حكم؛ وليس الحكم مخلوقا في رحمها؛ فنرجع إلى قولها.

قال أبو بكر : وجميع ما قدمنا من ذلك منتظم دلالة على بطلان قول من حد مقدار أقل الحيض بيوم وليلة؛ وعلى بطلان قول من لم يجعل لقليل الحيض؛ ولا لكثيره مقدارا معلوما؛ وعلى فساد قول من اعتبر عادة نسائها؛ ويدل على بطلان قول من أسقط اعتبار المقدار في قليله؛ وكثيره؛ أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود منها؛ فيجب على هذه القضية ألا تكون في الدنيا مستحاضة لوجود الدم؛ وكون جميعه حيضا؛ وقد علمنا بطلان ذلك بالسنة؛ واتفاق الأمة؛ فإن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أستحاض؛ فلا أطهر؛ فأخاف ألا يكون لي في الإسلام حظ؛ واستحيضت حمنة سبع سنين؛ فلم يقل الشارع لهما أن جميع ذلك حيض؛ بل أخبرهما أن منه ما هو حيض؛ ومنه ما هو استحاضة؛ فلا بد من أن يكون لما كان منه حيضا مقدار موقت؛ وهو ما أخبر عن مقداره بذكر الأيام؛ ويلزم أيضا من لا يجعل لأقل الحيض؛ ولا لأكثره مقدارا معلوما أن يجعل دم المبتدأة - إذا استمر بها - كله حيضا؛ وإن رأته سنة؛ لفقد عادة الحيض منها؛ ووجود الدم في رحمها؛ وهذا خلف من القول؛ متفق على بطلانه.

فإن قيل: لما كان النفاس مثل الحيض فيما يتعلق به من الحكم؛ ولم يكن لأقله حد معلوم؛ فكذلك الحيض؛ قيل له: إنما أثبتنا ذلك نفاسا بالاتفاق؛ ولم نقس عليه الحيض؛ إذ ليس طريق إثباته المقاييس؛ وقد احتج الفريقان؛ من مثبتي القليل؛ والكثير من الدم حيضا؛ وممن قدره بيوم؛ وليلة؛ بقوله (تعالى): فاعتزلوا النساء في المحيض ؛ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ؛ إذ كان [ ص: 29 ] ظاهره يقتضي القليل؛ والكثير; لأنه ليس في اللفظ توقيت؛ فإذا رأت الدم يوما؛ وليلة؛ فقد تناوله الظاهر؛ فيقال لهم: إنما يجب أن يثبت ذلك حيضا حتى يعتزلها فيه؛ إذ ليس في اللفظ دلالة على كيفية الحيض؛ ولا على معناه؛ وصفته؛ فإذا ثبت أنه حيض حينئذ أجري فيه حكم الآية؛ والخبر؛ ومتى اختلفوا فيه لم يكن في هذه الآية دليل على معناه؛ ودعوى الخصم لا تكون دليلا في المسألة؛ فإن قيل: قد بين الشارع علامة دم الحيض؛ وصفته ؛ بما يغني عن اعتبار المقدار معه؛ بقوله: دم الحيض هو الأسود ؛ المحتدم؛ فمتى وجد الدم بهذه الصفة كان حيضا؛ قيل له: لا خلاف أن الدم الذي ليست هذه صفته قد يكون حيضا؛ إذا رأته في أيامها؛ أو رأته وهي مبتدأة؛ وقد يوجد على هذه الصفة بعد أيامها؛ أو في أيامها؛ فيكون ما في أيامها منه حيضا؛ وما بعد أيامها استحاضة؛ فغير جائز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل وجود هذه الصفة علما للحيض؛ ودليلا عليه؛ وهي توجد مع عدمه؛ وتعدم مع وجوده؛ وإنما وجه ذلك عندنا أنه علم ذلك من حال امرأة بعينها؛ وأن حيضها أبدا يكون بهذه الصفة؛ فأخبر عن حكمها خاصة؛ دون غيرها؛ فلم يجز اعتباره في غيرها؛ وقد احتج الفريقان أيضا؛ من مثبتي مقدار أقل الحيض يوما وليلة؛ ومن نافي تقديره؛ بقوله (تعالى): ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ؛ فزعم من أسقط اعتبار المقدار أنه لما وصف الحيض بكونه أذى؛ فحيثما وجد الأذى فهو حيض؛ بغير اعتبار التوقيف؛ إذ ليس في الآية ذكر المقدار؛ ومن قال باليوم والليلة يقول: إن ظاهره يقتضي وجود الأذى في اليوم؛ والليلة حيضا؛ وفيما دونه؛ وخصصنا ما دونه بدلالة؛ فبقي حكم اللفظ في اليوم؛ والليلة؛ فيقال لهم: ينبغي أن يثبت الحيض أولا حتى تثبت هذه الصفة؛ وهي كونه أذى; لأنه (تعالى) إنما جعل الحيض أذى؛ ولم يجعل الأذى حيضا؛ وقد علمنا أنه ليس كل أذى حيضا؛ وأن كل حيض أذى؛ كما أنه ليس كل نجاسة حيضا؛ وإن كان كل حيض نجاسة؛ فوجب أن يثبت الحيض حتى يكون أذى؛ وأيضا معلوم أنه لو كان مراده أن يجعل الأذى اسم المحيض أنه لم يرد به أن كل أذى حيض; لأن سائر ضروب الأذى ليست بحيض؛ فيحصل حينئذ المراد أذى منكرا؛ إذ يحتاج في معرفته إلى دلالة من غيره؛ حتى إذا حصلت لنا معرفته حكمنا فيه بحكم الحيض؛ وأيضا فإن الأذى اسم مشترك؛ يقع على أشياء مختلفة المعاني؛ وما كان هذا وصفه من الأسماء فليس يجوز أن يكون عموما؛ واحتج بعض من جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوما؛ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رأيت ناقصات [ ص: 30 ] عقل؛ ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن"؛ فقيل: وما نقصان دينهن؟ فقال: "تمكث إحداهن نصف عمرها لا تصلي"؛ قال: وهذا يدل على أن الحيض خمسة عشر يوما؛ ويكون الطهر خمسة عشر يوما; لأنه أقل الطهر؛ فيكون الحيض نصف عمرها؛ ولو كان أكثر الحيض أقل من ذلك لم توجد امرأة لا تصلي نصف عمرها؛ فيقال له: لم يرو أحد "نصف عمرها"؛ وإنما روي على وجهين؛ أحدهما: " شطر عمرها "؛ والآخر: " تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي ؛ فأما ذكر نصف عمرها فلم يوجد في شيء من الأخبار؛ وقوله: " شطر عمرها "؛ لا دلالة فيه على أنه أراد النصف; لأن الشطر هو بمنزلة قوله: "طائفة"؛ و"بعض"؛ ونحو ذلك؛ قال الله (تعالى): فول وجهك شطر المسجد الحرام ؛ وإنما أراد ناحيته؛ وجهته؛ ولم يرد نصفه؛ وقد بين مقدار ذلك الشطر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي"؛ فوجب أن يكون هو المراد؛ دون غيره؛ ومع ذلك فإنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها; لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ من عمرها؛ وهو طهر بلا حيض؛ فلو جاز أن يكون الحيض بعد البلوغ خمسة عشر يوما؛ إلى انقضاء عمرها؛ وكان طهرها مع ذلك خمسة عشر؛ لما حصل الحيض نصف عمرها؛ فعلمنا بطلان قول من زعم أن حيضها قد يكون نصف عمرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية