الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الرضاع

قال الله (تعالى): والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ؛ الآية؛ قال أبو بكر : ظاهره الخبر؛ ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يرد به الخبر; لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره؛ فلما كان في الوالدات من لا يرضع؛ علم أنه لم يرد به الخبر؛ ولا خلاف أيضا في أنه لم يرد به الخبر؛ وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ؛ الذي هو الخبر؛ لم يخل من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم؛ وأمرها به؛ إذ قد يرد الأمر في صيغة الخبر؛ كقوله: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ؛ وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم؛ وإن أبى الأب؛ أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع؛ فلما قال في آية أخرى: فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ؛ وقال (تعالى): وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ؛ دل ذلك على أنه ليس المراد الرضاع؛ شاءت الأم؛ أو أبت؛ وأنها مخيرة في أن ترضع؛ أو لا ترضع؛ فلم يبق إلا الوجهان الآخران؛ وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أجبر عليه؛ وأن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين؛ فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه؛ [ ص: 105 ] ثم لا يخلو بعد ذلك قوله (تعالى): والوالدات يرضعن أولادهن ؛ من أن يكون عموما في سائر الأمهات؛ مطلقات كن؛ أو غير مطلقات؛ أو أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات؛ مقصور الحكم عليهن؛ فإن كان المراد سائر الأمهات؛ المطلقات منهن؛ والمزوجات؛ فإن النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية؛ وكسوتها؛ لا للرضاع؛ لأنها لا تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية؛ فتجتمع لها نفقتان؛ إحداهما للزوجية؛ والأخرى للرضاع؛ وإن كانت مطلقة فنفقة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية; لأنه أوجبها بالرضاع؛ وليست في هذه الحال زوجة؛ ولا معتدة منه; لأنه يكون معطوفا على قوله (تعالى): وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ؛ فتكون منقضية العدة بوضع الحمل؛ وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع؛ وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة؛ فتكون عليها العدة بالحيض.

وقد اختلفت الرواية من أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع؛ ونفقة العدة معا ؛ ففي إحدى الروايتين أنها تستحقهما معا؛ وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئا مع نفقة العدة؛ فقد حوت الآية الدلالة على معنيين؛ أحدهما أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين ؛ وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه؛ والثاني أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان.

وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع; لأن الله (تعالى) أوجب هذه النفقة على الأب للأم؛ وهما جميعا وارثان؛ ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم؛ مع اشتراكهما في الميراث؛ فصار ذلك أصلا في اختصاص الأب بإلزام النفقة؛ دون غيره؛ كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار؛ والكبار الزمنى؛ يختص هو بإيجابه عليه؛ دون مشاركة غيره فيه؛ لدلالة الآية عليه.

وقوله (تعالى): رزقهن وكسوتهن بالمعروف ؛ يقتضي وجوب النفقة والكسوة لها في حال الزوجية؛ لشمول الآية لسائر الوالدات من الزوجات؛ والمطلقات؛ وقوله (تعالى): بالمعروف ؛ يدل على أن الواجب من النفقة؛ والكسوة؛ هو على قدر حال الرجل؛ في إعساره؛ ويساره؛ إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه؛ ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف؛ ويدل أيضا على أنها على مقدار الكفاية؛ مع اعتبار حال الزوج ؛ وقد بين ذلك بقوله - عقيب ذلك -: لا تكلف نفس إلا وسعها ؛ فإذا اشتطت المرأة؛ وجلبت من النفقة أكثر من المعتاد [ ص: 106 ] المتعارف لمثلها؛ لم تعط؛ وكذلك إذا قصر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف؛ والعادة؛ لم يحل ذلك؛ وأجبر على نفقة مثلها.

وفي هذه الآية دلالة على جواز استئجار الظئر؛ بطعامها؛ وكسوتها; لأن ما أوجبه الله (تعالى) في هذه الآية للمطلقة هي أجرة الرضاع؛ وقد بين ذلك بقوله (تعالى): فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ؛ وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث؛ إذ لا توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن؛ وأكثر الرأي؛ إذ كان ذلك معتبرا بالعادة؛ وكل ما كان مبنيا على العادة فسبيله الاجتهاد؛ وغالب الظن؛ إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه؛ ولا نقصان؛ ومن جهة أخرى هو مبني على الاجتهاد؛ وهو اعتبار حاله في إعساره؛ ويساره؛ ومقدار الكفاية؛ والإمكان؛ بقوله: لا تكلف نفس إلا وسعها ؛ واعتبار الوسع مبني على العادة؛ وقوله (تعالى): لا تكلف نفس إلا وسعها ؛ يوجب بطلان قول أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله (تعالى) يكلف عباده ما لا يطيقون؛ وإكذاب لهم في نسبتهم ذلك إلى الله؛ تعالى الله عما يقولون؛ وينسبون إليه من السفه؛ والعبث؛ علوا كبيرا.

قوله (تعالى): لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ؛ روي عن الحسن؛ ومجاهد ؛ وقتادة ؛ قالوا: "هو المضارة في الرضاع "؛ وعن سعيد بن جبير ؛ وإبراهيم؛ قالا: "إذا قام الرضاع على شيء خيرت الأم"؛ قال أبو بكر : فمعناه: لا تضار والدة بولدها بألا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية؛ بل تكون هي أولى؛ على ما تقدم في أول الآية من قوله: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ؛ فجعل الأم أحق برضاع الولد هذه المدة؛ ثم أكد ذلك بقوله (تعالى): لا تضار والدة بولدها ؛ يعني - والله أعلم - أنها إذا رضيت بأن ترضع بمثل ما ترضع به غيرها؛ لم يكن للأب أن يضارها؛ فيدفعه إلى غيرها؛ وهو كما قال - في آية أخرى -: فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ؛ فجعلها أولى بالرضاع؛ ثم قال: وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ؛ فلم يسقط حقها من الرضاع إلا عند التعاسر؛ ويحتمل أن يريد به أنها لا تضار بولدها إذا لم تختر أن ترضعه؛ بأن ينتزع منها؛ ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها؛ حتى ترضعه في بيتها؛ وكذلك قول أصحابنا.

ولما كانت الآية محتملة للمضارة في نزع الولد منها؛ واسترضاع غيرها؛ وجب حمله على المعنيين؛ فيكون الزوج ممنوعا من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة [ ص: 107 ] مثلها؛ وهي الرزق؛ والكسوة بالمعروف؛ وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى ترضعه في بيتها؛ حتى لا يكون مضارا لها بولدها؛ وفي هذا دلالة على أن الأم أحق بإمساك الولد؛ ما دام صغيرا؛ وإن استغنى عن الرضاع بعدما يكون ممن يحتاج إلى الحضانة; لأن حاجته إلى الأم؛ بعد الرضاع؛ كهي قبله؛ فإذا كانت في حال الرضاع أحق به - وإن كانت المرضعة غيرها – علمنا أن في كونه عند الأم حقا لها.

وفيه حق للولد أيضا؛ وهو أن الأم أرفق به؛ وأحنى عليه؛ وذلك في الغلام عندنا؛ إلى أن يأكل وحده؛ ويشرب وحده؛ ويتوضأ وحده؛ وفي الجارية حتى تحيض; لأن الغلام إذا بلغ الحد الذي يحتاج فيه إلى التأديب؛ ويعقله؛ ففي كونه عند الأم؛ دون الأب؛ ضرر عليه؛ والأب - مع ذلك - أقوم بتأديبه؛ وهي الحال التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مروهم بالصلاة لسبع؛ واضربوهم عليها لعشر؛ وفرقوا بينهم في المضاجع"؛ فمن كانت سنه سبعا؛ فهو مأمور بالصلاة؛ على وجه التعليم؛ والتأديب; لأنه يعقلها؛ فكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمه؛ وفي كونه عندها في هذه الحال ضرر عليه؛ ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يكون فيه ضرر عليه؛ وأما الجارية فلا ضرر عليها في كونها عند الأم إلى أن تحيض؛ بل كونها عندها أنفع لها; لأنها تحتاج إلى آداب النساء؛ ولا تزول هذه الولاية عنها إلا بالبلوغ; لأنها تستحقها عليها بالولادة؛ ولا ضرر عليها في كونها عندها؛ فلذلك كانت أولى إلى وقت البلوغ؛ فإذا بلغت احتاجت إلى التحصين؛ والأب أقوم بتحصينها؛ فلذلك كان أولى بها.

وبمثل دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ وهو ما روي عن علي - كرم الله وجهه وابن عباس ؛ أن عليا اختصم هو وزيد بن حارثة ؛ وجعفر بن أبي طالب؛ في بنت حمزة ؛ وكانت خالتها تحت جعفر ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ادفعوها إلى خالتها؛ فإن الخالة والدة"؛ فكان في هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة؛ كما حكمت الآية بأن الأم أحق بإمساك الولد من الأب ؛ وهذا أصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى بإمساك الصبي وحضانته؛ من حضانة العصبة من الرجال ؛ الأقرب فالأقرب منهم؛ وقد حوى هذا الخبر معاني؛ منها أن الخالة لها حق الحضانة ؛ وأنها أحق به من العصبة؛ وسماها والدة؛ ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبي؛ لها هذا الحق؛ الأقرب فالأقرب؛ إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة؛ وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه؛ عن عبد الله بن عمر أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله; حين كان بطني له وعاء؛ وثديي له [ ص: 108 ] سقاء؛ وحجري له حواء؛ أراد أبوه أن ينتزعه مني؛ فقال: "أنت أحق به ما لم تتزوجي"؛ وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة؛ منهم علي ؛ وأبو بكر ؛ وعبد الله بن مسعود ؛ والمغيرة بن شعبة ؛ في آخرين من الصحابة؛ والتابعين.

وقال الشافعي : يخير الغلام إذا أكل أو شرب وحده؛ فإن اختار الأب كان أولى به؛ وكذلك إن اختار الأم كان عندها؛ وروي فيه حديث عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير غلاما بين أبويه؛ فقال له: "اختر أيهما شئت"؛ وروى عبد الرحمن بن غنم ؛ قال: شهدت عمر بن الخطاب خير صبيا بين أبويه؛ فأما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فجائز أن يكون بالغا; لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ؛ وقد روي عن علي أنه خير غلاما؛ وقال: "لو قد بلغ هذا - يعني أخا له صغيرا – لخيرته"؛ فهذا يدل على أن الأول كان كبيرا؛ وقد روي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: إنه طلقني؛ وإنه يريد أن ينزع مني ابني؛ وقد نفعني؛ وسقاني من بئر أبي عنبة؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استهما عليه"؛ فقال: من يحاجني في ابني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا غلام؛ هذه أمك؛ وهذا أبوك؛ فاختر أيهما شئت"؛ فأخذ الغلام بيد أمه؛ وقول الأم: "قد سقاني من بئر أبي عنبة"؛ يدل على أنه كان كبيرا.

وقد اتفق الجميع على أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه؛ وكذلك في الأبوين؛ قال محمد بن الحسن : لا يخير الغلام; لأنه لا يختار إلا شر الأمرين؛ قال أبو بكر : هو كذلك; لأنه يختار اللعب؛ والإعراض عن تعلم الأدب؛ والخير؛ وقال الله (تعالى): قوا أنفسكم وأهليكم نارا ؛ ومعلوم أن الأب أقوم بتأديبه وتعليمه؛ وأن في كونه عند الأم ضررا عليه; لأنه ينشأ على أخلاق النساء؛ وأما قوله (تعالى): ولا مولود له بولده ؛ فإنه عائد على المضارة؛ نهي الرجل أن يضارها بولدها؛ ونهي المرأة أيضا أن تضار بولده؛ والمضارة من جهتها قد تكون في النفقة وغيرها؛ فأما في النفقة فأن تشتط عليه؛ وتطلب فوق حقها؛ وفي غير النفقة أن تمنعه من رؤيته؛ والإلمام به؛ ويحتمل أن تغترب به؛ وتخرجه عن بلده؛ فتكون مضارة له بولده؛ ويحتمل أن تريد ألا يطيعه؛ وتمتنع من تركه عنده؛ فهذه الوجوه كلها محتملة؛ ينطوي عليها قوله (تعالى): ولا مولود له بولده ؛ فوجب حمل الآية عليها.

قوله (تعالى): وعلى الوارث مثل ذلك ؛ هو عطف على جميع المذكور قبله؛ من عند قوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ؛ لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بالواو؛ وهي حرف الجمع؛ فكان الجميع مذكورا في حال واحدة؛ (النفقة؛ والكسوة)؛ والنهي لكل واحد منهما عن مضارة الآخر؛ [ ص: 109 ] على ما اعتورها من المعاني التي قدمنا ذكرها؛ ثم قال الله (تعالى): وعلى الوارث مثل ذلك ؛ يعني: النفقة والكسوة؛ وألا يضارها؛ ولا تضاره؛ إذ كانت المضارة قد تكون في النفقة؛ كما تكون في غيرها ؛ فلما قال - عطفا على ذلك -: وعلى الوارث مثل ذلك ؛ كان ذلك موجبا على الوارث جميع المذكور.

وقد روي عن عمر ؛ وزيد بن ثابت ؛ والحسن ؛ وقبيصة بن ذؤيب ؛ وعطاء ؛ وقتادة ؛ في قوله (تعالى): وعلى الوارث مثل ذلك ؛ قالوا: "النفقة"؛ وعن ابن عباس ؛ والشعبي : "عليه ألا يضار"؛ قال أبو بكر : قولهما: "عليه ألا يضار"؛ لا دلالة فيه على أنهما لم يريا النفقة واجبة على الوارث; لأن المضارة قد تكون في النفقة؛ كما تكون في غيرها ؛ فعوده على المضارة لا ينفي إلزامه النفقة؛ ولولا أن عليه النفقة ما كان لتخصيصه بالنهي عن المضارة فائدة؛ إذ هو في ذلك كالأجنبي؛ ويدل على أن المراد المضارة في النفقة؛ وفي غيرها؛ قوله ( تعالى) - عقيب ذلك -: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم ؛ فدل ذلك على أن المضارة قد انتظمت الرضاع؛ والنفقة.

وقد اختلف السلف فيمن تلزمه نفقة الصغير؛ فقال عمر بن الخطاب : "إذا لم يكن له أب فنفقته على العصبات"؛ وذهب في ذلك إلى أن الله (تعالى) أوجب النفقة على الأب؛ دون الأم; لأنه عصبة؛ فوجب أن تختص بها العصبات بمنزلة العقل؛ وقال زيد بن ثابت : "النفقة على الرجال والنساء؛ على قدر مواريثهم"؛ وهو قول أصحابنا؛ وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من أن على الوارث ألا يضارها؛ وقد بينا أن هذا يدل على أنه رأى على الوارث النفقة; لأن المضارة تكون فيها.

وقال مالك : لا نفقة على أحد إلا الأب خاصة؛ ولا تجب على الجد؛ وعلى ابن الابن للجد؛ وتجب على الابن للأب؛ وقال الشافعي : لا تجب نفقة الصغير على أحد من قرابته إلا الوالد؛ والولد؛ والجد؛ وولد الولد.

قال أبو بكر : وظاهر قوله: وعلى الوارث مثل ذلك ؛ واتفاق السلف على ما وصفنا من إيجاب النفقة؛ يقضيان بفساد هذين القولين; لأن قوله: وعلى الوارث مثل ذلك ؛ عائد على جميع المذكورين في النفقة؛ والمضارة؛ وغير جائز لأحد تخصيصه بغير دلالة؛ وقد ذكرنا اختلاف السلف فيمن تجب عليه من الورثة؛ ولم يقل أحد منهم: إن الأخ؛ والعم؛ لا تجب عليهما النفقة؛ وقول مالك ؛ والشافعي ؛ خارج عن قول الجميع.

ومن حيث وجب على الأب - وهو ذو رحم محرم - وجب على من هو بهذه الصفة؛ الأقرب فالأقرب؛ لهذه العلة؛ ويدل عليه قوله (تعالى): ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ؛ إلى قوله (تعالى): أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ؛ فذكر ذوي الرحم المحرم ؛ وجعل لهم أن [ ص: 110 ] يأكلوا من بيوتهم؛ فدل على أنهم مستحقون لذلك؛ لولاه لما أباحه لهم.

فإن قيل: قد ذكرنا فيه: أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ؛ ولا يستحقان النفقة؛ قيل له: هو منسوخ عنهم بالاتفاق؛ ولم يثبت نسخ ذوي الرحم المحرم ؛ فإن قيل: فأوجبوا النفقة على ابن العم؛ إذا كان وارثا؛ قيل له: الظاهر يقتضيه؛ وخصصناه بدلالة؛ فإن قيل: فإن كان قوله: وعلى الوارث مثل ذلك ؛ موجبا للنفقة على كل وارث؛ فالواجب إيجاب النفقة على الأب؛ والأم؛ على قدر مواريثهما منه؛ قيل له: إنما المراد: وعلى الوارث غير الأب؛ وذلك لأنه قد تقدم ذكر الأب؛ في أول الخطاب؛ بإيجاب جميع النفقة عليه؛ دون الأم؛ ثم عطف عليه قوله: وعلى الوارث مثل ذلك ؛ وغير جائز أن يكون مراده الأب مع سائر الورثة; لأنه يوجب نسخ ما قد تقدم؛ وغير جائز وجود الناسخ؛ والمنسوخ في شيء واحد؛ في خطاب واحد؛ إذ كان النسخ غير جائز إلا بعد استقرار الحكم؛ والتمكين من الفعل.

وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه: "إذا ولد مولود وأبوه ميت؛ أو معدوم؛ فعلى أمه أن ترضعه؛ لقوله (تعالى): والوالدات يرضعن أولادهن ؛ فلا يسقط عنها بسقوط ما كان يجب على الأب؛ فإن انقطع لبنها - بمرض؛ أو غيره - فلا شيء عليها؛ وإن كان يمكنها أن تسترضع فلم تفعل؛ وخافت عليه الموت ؛ وجب عليها أن تسترضع؛ لا من جهة ما على الأب؛ لكن من جهة أن على كل واحد إعانة من يخاف عليه؛ إذا أمكنه"؛ وهذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من الاختلال؛ أحدها أنه أوجب الرضاع على الأم؛ لقوله: والوالدات يرضعن أولادهن ؛ وأعرض عن ذكر ما يتصل به من قوله: وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ؛ فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة؛ والكسوة؛ فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل؛ ومعلوم أن لزوم النفقة للأب؛ بدلا من الرضاع؛ يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب؛ ملكا باستحقاق البدل عليه؛ فاستحال إيجابها على الأم؛ وقد أوجبها الله (تعالى) على الأب؛ بإلزامها بدلها من النفقة؛ والكسوة.

والثاني قوله: يرضعن أولادهن ؛ ليس فيه إيجاب الرضاع عليها؛ وإنما جعل به الرضاع حقا لها; لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت؛ وكان الأب حيا؛ وقد نص الله (تعالى) على ذلك في قوله: وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ؛ فلا يصح الاستدلال بالآية على إيجاب الرضاع عليها في حال فقد الأب؛ وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته؛ وهو المنصوص عليه في الآية؛ ثم زعم أنه إن انقطع لبنها [ ص: 111 ] - بمرض؛ أو غيره - فلا شيء عليها؛ وإن أمكنها أن تسترضع؛ وهذا أيضا منتقض; لأنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد؛ في حال فقد الأب؛ فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها؛ إذا تعذر عليها الرضاع؛ كما وجب على الأب استرضاعه؛ وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها؛ فغير جائز إلزامها الرضاع؛ وما الفارق بين لزومها منافع الرضاع؛ وبين لزوم ذلك في مالها؛ إذا تعذر عليها؟ ثم ناقض فيه من وجه آخر؛ وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع؛ ويفرق بين الرضاع؛ وبين النفقة بعد الرضاع؛ وهما جميعا من نفقة الصغير؛ فمن أين أوجب الفارق بينهما؟ ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في الأب؛ حتى يقال: إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع؛ فإذا انقضت مدة الرضاع فلا نفقة عليه للصغير; لأن الله (تعالى) إنما أوجب عليه نفقتها؛ وكسوتها للرضاع.

ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع؛ وخافت عليه الموت؛ فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك؛ لو خافت عليه الموت؛ فإن كان ذلك على هذا المعنى؛ فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها؛ ودون سائر الناس؟ وهذا كله تخليط؛ وتشبه غير مقرون بدلالة؛ ولا مستند إلى شبهة؛ وقد حكي مثل ذلك عن مالك ؛ أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للابن؛ وعلى الابن للأب؛ ولا يوجبها للجد على ابن الابن ؛ وهو قول خارج عن أقاويل السلف؛ والخلف جميعا؛ لا نعلم عليه موافقا؛ ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده؛ وهو قوله (تعالى): ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن ؛ إلى قوله ( تعالى): وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ؛ والجد داخل في هذه الجملة; لأنه أب؛ قال الله (تعالى): ملة أبيكم إبراهيم ؛ وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف؛ لا خلاف في ذلك؛ وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا؛ مع القدرة على سد جوعته؛ ويدل عليه أيضا قوله: ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ؛ فذكر بيوت هؤلاء الأقرباء؛ ولم يذكر بيت الابن؛ ولا ابن الابن; لأن قوله: من بيوتكم ؛ قد اقتضى ذلك؛ كقوله: " أنت ومالك لأبيك "؛ فأضاف إليه ملك الابن؛ كما أضاف إليه بيت الابن؛ واقتصر على إضافة البيوت إليه؛ والدليل على أنه أراد بيوت الابن؛ وابن الابن؛ أنه قد كان معلوما قبل ذلك أن الإنسان غير محظور عليه مال نفسه؛ فإنه لا وجه لقول القائل: "لا جناح عليك في أكل مال نفسك"؛ فدل ذلك على أن المراد بقوله: أن تأكلوا من بيوتكم ؛ هي بيوت الأبناء؛ وأبناء الأبناء؛ إذ لم يذكرهما جميعا؛ كما ذكر سائر الأقرباء.

وقد اختلف [ ص: 112 ] موجبو النفقة على الورثة؛ على قدر مواريثهم؛ فقال أصحابنا: هي على كل من كان من أهل الميراث على قدر ميراثه من الصبي؛ إذا كان ذا رحم محرم منه؛ ولا نفقة على من لم يكن ذا رحم محرم من الصبي؛ وإن كان وارثا؛ ولذلك أوجبوا النفقة على الخال؛ والميراث لابن العم; لأن ابن العم ليس بذي رحم محرم؛ والخال - وإن لم يكن وارثا في هذه الحال - فهو من أهل الميراث؛ ذو رحم محرم؛ وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به وارثا في حال الحياة; لأن الميراث لا يكون في حال الحياة؛ وبعد الموت لا يدرى من يرثه؛ وعسى أن يكون هذا الصبي يرث هذا الذي عليه النفقة بموته قبله؛ وجائز أن يحدث له من الورثة من يحجب من أوجبنا عليه؛ ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ليس المراد حصول الميراث؛ وإنما المعنى أنه ذو رحم محرم من أهل الميراث.

وقال ابن أبي ليلى : النفقة واجبة على كل وارث - ذا رحم محرم كان؛ أو غير ذي رحم محرم -؛ فيوجبها على ابن العم؛ دون الخال؛ والدليل على صحة ما ذكرنا اتفاق الجميع على أن مولى العتاقة لا تجب عليه النفقة؛ وإن كان وارثا؛ وكذلك المرأة لا تجب عليها نفقة زوجها الصغير؛ وهي ممن يرثه؛ فدل ذلك على أن كونه ذا رحم محرم شرط في إيجاب النفقة.

وأما قوله - عز وجل -: حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ؛ فإنه لا يخلو توقيت الحولين من أحد المعنيين؛ إما أن يكون تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم؛ أو لما يلزم الأب من نفقة الرضاع؛ فلما قال - في نسق التلاوة؛ بعد ذكر الحولين -: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ؛ دل ذلك على أن الحولين ليسا تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم; لأن الفاء للتعقيب؛ فواجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين؛ وإذا كان الفصال معلقا بتراضيهما؛ وتشاورهما بعد الحولين؛ فقد دل ذلك على أن ذكر الحولين ليس هو من جهة توقيت نهاية الرضاع الموجب للتحريم؛ وأنه جائز أن يكون بعدهما رضاع.

وقد روى معاوية بن صالح ؛ عن علي بن أبي طلحة ؛ عن ابن عباس ؛ في قوله (تعالى): والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ؛ فجعل الله - سبحانه - الرضاع حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة؛ ثم قال: فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ؛ إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين؛ أو بعده؛ فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله (تعالى): فإن أرادا فصالا ؛ على ما قبل الحولين؛ وبعده؛ ويدل عليه قوله (تعالى): وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم ؛ وظاهره الاسترضاع بعد الحولين; لأنه معطوف على ذكر الفصال؛ الذي علقه بتراضيهما؛ [ ص: 113 ] فأباحه لهما؛ وأباح للأب الاسترضاع بعد ذلك؛ كما أباح لهما الفصال إذا كان فيه صلاح الصبي؛ ودل ما وصفنا على أن ذكر الحولين إنما هو توقيت لما يلزم الأب في الحكم؛ من نفقة الرضاع؛ ويجبره الحاكم عليه ؛ والله أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية