الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب مقدار الوصية الجائزة قال الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين ظاهره يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره ؛ لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض ؛ إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه ، وهو : قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية ، فلو اقتضى قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون منسوخا بجواز الوصية بجميع المال ، فلما كان حكم هذه الآية [ ص: 30 ] ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية ، فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى نكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يعني في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله ؛ فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث ، منها ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا : حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : مرض أبي مرضا شديدا قال ابن أبي خلف بمكة مرضا أشفى منه ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بالثلثين ؟ قال : لا ، قال : فبالشطر ؟ قال : لا ، قال : فبالثلث ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت : يا رسول الله أتخلف عن هجرتي ؟ قال إنك إن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة ، لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال : اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة .

قال أبو بكر : قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد ، منها : أن الوصية غير جائزة في أكثر من الثلث .

والثاني : أن المستحب النقصان عن الثلث ، ولذلك قال بعض الفقهاء : أستحب النقصان عنه لقوله صلى الله عليه وسلم : " والثلث كثير " .

والثالث : أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا يوصي بشيء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث ؛ لأنه أخبر أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث ؛ لأن سعدا قال : أتصدق بجميع مالي ؟ فقال : " لا " إلى أن رده إلى الثلث ؛ وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض ، فقال : أوصيت ؟ قلت : نعم قال : بكم ؟ قلت : بمالي كله في [ ص: 31 ] سبيل الله ، قال : فما تركت لولدك ؟ قال : هم أغنياء ، قال : أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصني حتى قال : أوص بالثلث والثلث كثير .

قال أبو عبد الرحمن : فنحن نستحب أن ننقص من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم : " والثلث كثير " . فذكر في هذا الحديث أنه قال : " أوصيت بمالي كله " وهذا لا ينفي ما روي في الحديث الأول من الصدقة في المرض ؛ لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها ، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث ، وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته ، وفيه : إن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها ؛ لأنها بمنزلة الصدقة ؛ لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى ؛ وهو نظير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة .

وقول سعد : " أتخلف عن هجرتي " عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضر به آخرين ؛ وكذلك كان ، فإنه بقي بعده صلى الله عليه وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة ؛ وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى .

حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم العجلي قال : حدثني عبد الأعلى بن واصل قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح قال : حدثنا مبارك بن حسان قال : حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال : يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك ، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك . ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال : حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال : حدثنا عثمان قال : سمعت طلحة بن عمرو قال : حدثنا عطاء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم . قال أبو بكر : فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقي الناس إياها بالقبول ، وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب أنها مقصورة على الثلث وقوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين يدل على أن [ ص: 32 ] من ليس عليه دين لآدمي ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته ، وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصي به ، وكذلك الكفارات والنذور .

فإن قيل : إن الحج دين ، وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء . قيل له : إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله الإطلاق ، وقول الله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به دينا على الإطلاق ، فلا ينطوي تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا ؛ لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة ، فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق ، فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا ، اقتضى قوله تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين أنه إذا لم يوص لم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته .

وحديث سعد يدل على ذلك أيضا ؛ لأنه قال : أتصدق بمالي ؟ وفي لفظ آخر : أوصي بمالي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الثلث والثلث كثير ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم الحج ولا الزكاة ونحوهما من حقوق الله تعالى ، ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال ؛ فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث . ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكيا عن الله تعالى : جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية