الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قال أهل اللغة : التحية الملك ، ومنه قول الشاعر :

أسير به إلى النعمان حتى أنيخ على تحيته بجند

يعني : على ملكه . ومعنى قوله : " حياك الله " أي " ملكك الله " . ويسمى السلام تحية أيضا ؛ لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله . قال أبو ذر : كنت أول من حيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام فقلت : السلام عليك ورحمة الله . وقال النابغة :

يحيون بالريحان يوم السباسب

يعني أنهم يعطون الريحان . ويقال لهم " حياكم الله " والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله

؛ فإذا حملنا قوله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يثب منه ، فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها ما لم يثب منها ، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها ؛ لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جيء به .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا سليمان بن [ ص: 186 ] داود المهري قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء قيأه ، فإذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها .

وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها . إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين :

أحدهما : صحة الرجوع في الهبة ، والآخر : كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه . وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا :

أحدهما : أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ، ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب ، فما شبهه به فهو مثله .

والثاني : أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القيء ، لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده . وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته .

وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم . وقد روي عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام ، منهم جابر بن عبد الله .

وقال الحسن : " السلام تطوع ورده فريضة " وذكر الآية . ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر ، فقال عطاء : " هو في أهل الإسلام خاصة " .

وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة : " هو عام في الفريقين " وقال الحسن : " تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار " .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لا تبدءوا اليهود بالسلام فإن بدءوكم فقولوا وعليكم . وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية ، إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ . وأما قوله تعالى : بأحسن منها إذا أريد به رد السلام فهو الزيادة في الدعاء ، وذلك إذا قال : " السلام عليكم " يقول هو : " وعليكم السلام ورحمة الله " وإذا قال : " السلام عليكم ورحمة الله " قال هو : " وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته "

التالي السابق


الخدمات العلمية