الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة [ ص: 406 ] وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنـزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " يا أيها الناس " يعني : أهل مكة ، " إن كنتم في ريب من البعث " ; أي : في شك من القيامة ، " فإنا خلقناكم من تراب " يعني : خلق آدم ، " ثم من نطفة " يعني : خلق ولده ، والمعنى : إن شككتم في بعثكم فتدبروا أمر خلقكم وابتدائكم ، فإنكم لا تجدون في القدرة فرقا بين الابتداء والإعادة . فأما النطفة : فهي المني . والعلقة : دم عبيط جامد ، وقيل : سميت علقة ; لرطوبتها وتعلقها بما تمر به ، فإذا جفت فليست علقة . والمضغة : لحمة صغيرة . قال ابن قتيبة : وسميت بذلك ; لأنها بقدر ما يمضغ ، كما قيل : غرفة لقدر ما يغرف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " مخلقة وغير مخلقة " فيه خمسة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أن المخلقة : ما خلق سويا ، وغير المخلقة : ما ألقته الأرحام من النطف وهو دم قبل أن يكون خلقا ، قاله ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أن المخلقة : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه ، وهو الذي يولد [ ص: 407 ] حيا لتمام ، وغير المخلقة : ما سقط غير حي لم يكمل خلقه بنفخ الروح فيه ، هذا معنى قول ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أن المخلقة : المصورة ، وغير المخلقة : غير مصورة ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أن المخلقة وغير المخلقة : السقط ، تارة يسقط نطفة وعلقة ، وتارة قد صور بعضه ، وتارة قد صور كله ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس : أن المخلقة : التامة ، وغير المخلقة : السقط ، قاله الفراء وابن قتيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لنبين لكم " فيه أربعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : خلقناكم لنبين لكم ما تأتون وما تذرون .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : لنبين لكم في القرآن بدو خلقكم وتنقل أحوالكم .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : لنبين لكم كمال حكمتنا وقدرتنا في تقليب أحوال خلقكم .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : لنبين لكم أن البعث حق .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبو عمران الجوني وابن أبي عبلة : ( ليبين لكم ) بالياء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ونقر في الأرحام " وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء : ( ويقر ) بياء مرفوعة وفتح القاف ورفع الراء . وقرأ أبو الجوزاء وأبو إسحاق السبيعي : ( ويقر ) بياء مرفوعة وبكسر القاف ونصب الراء . والذي يقر في الأرحام هو الذي لا يكون سقطا . " إلى أجل مسمى " وهو أجل الولادة ، " ثم نخرجكم طفلا " [ ص: 408 ] قال أبو عبيدة : هو في موضع أطفال ، والعرب قد تضع لفظ الواحد في معنى الجميع ، قال الله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ التحريم : 4 ] ; أي : ظهراء ، وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور



                                                                                                                                                                                                                                      وأنشد أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      في حلقكم عظم وقد شجينا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال غيره : إنما قال : " طفلا " فوحد ; لأن الميم في قوله تعالى : " نخرجكم " قد دلت على الجميع ، فلم يحتج إلى أن يقول : أطفالا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ثم لتبلغوا " فيه إضمار ، تقديره : ثم نعمركم لتبلغوا أشدكم ، وقد سبق معنى " الأشد " ( الأنعام : 153 ) . " ومنكم من يتوفى " من قبل بلوغ الأشد ، " ومنكم من يرد إلى أرذل العمر " وقد شرحناه في ( النحل : 70 ) . ثم إن الله تعالى دلهم على إحيائه الموتى بإحيائه الأرض ، فقال تعالى : " وترى الأرض هامدة " قال ابن قتيبة ; أي : ميتة يابسة ، ومثله : همدت النار : إذا طفئت فذهبت .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " فإذا أنزلنا عليها الماء " يعني : المطر ، " اهتزت " ; أي : تحركت للنبات ، وذلك أنها ترتفع عن النبات إذا ظهر ، فهو معنى قوله تعالى : " وربت " ; أي : ارتفعت وزادت . وقال المبرد : أراد : اهتز نباتها وربا ، فحذف المضاف . قال الفراء : وقرأ أبو جعفر المدني : ( وربأت ) بهمزة مفتوحة بعد الباء . فإن كان ذهب إلى الربيئة الذي يحرس القوم ; أي : إنه يرتفع ، وإلا فهو غلط . [ ص: 409 ]

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وأنبتت من كل زوج بهيج " قال ابن قتيبة : من كل جنس حسن يبهج ; أي : يسر ، وهو فعيل في معنى فاعل .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ذلك " قال الزجاج : المعنى : الأمر ذلك كما وصف لكم ، والأجود أن يكون موضع " ذلك " رفعا ، ويجوز أن يكون نصبا على معنى : فعل الله ذلك بأنه هو الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وأن الساعة " ; أي : ولتعلموا أن الساعة آتية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية