الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل الخلاف بين السلف في التفسير قليل وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد وذلك صنفان : " أحدهما " أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى - بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة - كما قيل في اسم السيف الصارم والمهند وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر ; بل الأمر كما قال تعالى : { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } .

                وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة وعلى الصفة التي [ ص: 334 ] تضمنها الاسم . كالعليم يدل على الذات والعلم والقدير يدل على الذات والقدرة والرحيم يدل على الذات والرحمة ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر : فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون : لا يقال هو حي ولا ليس بحي ; بل ينفون عنه النقيضين ; فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات فمن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك .

                وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته . ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن : مثل القرآن والفرقان والهدى والشفاء والبيان والكتاب . وأمثال ذلك .

                فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة كمن يسأل عن قوله : { ومن أعرض عن ذكري } ما ذكره ؟ فيقال له : هو القرآن مثلا أو هو ما أنزله من الكتب . فإن الذكر مصدر . والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول .

                [ ص: 335 ] فإذا قيل : ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به مثل قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وهو كلامه وهذا هو المراد في قوله : { ومن أعرض عن ذكري } لأنه قال قبل ذلك { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } وهداه هو ما أنزله من الذكر وقال بعد ذلك : { قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا } { قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها } .

                والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل أو هو ذكر العبد له فسواء قيل ذكري كتابي أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك كان المسمى واحدا .

                وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى مثل أن يسأل عن القدوس السلام المؤمن وقد علم أنه الله ; لكن مراده ما معنى كونه قدوسا سلاما مؤمنا ونحو ذلك .

                إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر كمن يقول : أحمد هو الحاشر والماحي والعاقب ، والقدوس هو الغفور [ ص: 336 ] والرحيم أي أن المسمى واحد لا أن هذه الصفة هي هذه الصفة ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم .

                فقال بعضهم : هو " القرآن " : أي اتباعه ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وقال بعضهم : هو " الإسلام " لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره : { ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو من فوق الصراط وداع يدعو على رأس الصراط قال : فالصراط المستقيم هو الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن } فهذان القولان متفقان ; لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر كما أن لفظ " صراط " يشعر بوصف ثالث وكذلك قول من قال : هو " السنة والجماعة " وقول من قال : " هو طريق العبودية " وقول من قال : " هو طاعة الله ورسوله " صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك فهؤلاء كلهم أشاروا [ ص: 337 ] إلى ذات واحدة ; لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها .

                " الصنف الثاني " أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع - لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى " لفظ الخبز " فأري رغيفا وقيل له : هذا . فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده - مثال ذلك ما نقل في قوله : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } .

                فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات . والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات . فالمقتصدون هم أصحاب اليمين { والسابقون السابقون } { أولئك المقربون } .

                ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت والمقتصد الذي يصلي في أثنائه والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار ويقول [ الآخر ] السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع والناس في الأموال إما محسن وإما عادل وإما ظالم فالسابق المحسن بأداء [ ص: 338 ] المستحبات مع الواجبات والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا وأمثال هذه الأقاويل . فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له وتنبيهه به على نظيره ; فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق . والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له : هذا هو الخبز .

                وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا ; كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية وأن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله . وأن قوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } نزلت في بني قريظة والنضير وأن قوله : { ومن يولهم يومئذ دبره } نزلت في بدر وأن قوله : { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء وقول أبي أيوب إن قوله : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } نزلت فينا معشر الأنصار الحديث ، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى . أو في قوم من المؤمنين .

                [ ص: 339 ] فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم ; فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا ؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين أن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال إنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ .

                والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته وإن كانت خبرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته [ أيضا ] .

                ومعرفة " سبب النزول " يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ; ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها .

                وقولهم نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول عنى بهذه الآية كذا .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية